شهادة في سرد الحداثة وما بعد الحداثة
لم أكن أقصـد..
لم أكن أقصد..
هل تكفي هذه العبارة للإقناع بأنّي، حين كتبتُ، لم أفكّر بالحداثة: ادّعاءاتها، وعقلانيّتها، وعلمانيّتها، وحتميّاتها، واكتشافاتها، ومدنيّتها، وشموليّتها، وأحلامها، وغموضها..؟!
وهل تُقنع أنّني لم أكن مهتمّاً بـ “ما بعد الحداثة”: برودتها، وتشظّيها، ولا تعيينها، وغيتواتها، وثوراتها الإعلاميّة والمعلوماتيّة والوراثيّة، ونكوص تيّارات الحداثة فيها؟!
لم أكن أقصد؛
وهل في الإبداع قصد؟!
هذا إذا كان ما كتبتُ، يمكن أن يصنّف في هذا الباب.. لكنّه يبقى محاولات في الإبداع على كلّ حال..
لم أكن أقصد، حين حاولتُ– وأحاول– أن أكتب متوتّراً مكتئباً مستفزّاً، إلّا أن أذرف ذرّات روحي على الورق؛ بل خارج جسدي!
لم أكن أقصد، إلّا أن أترك لشظاياي، أن ترسم مشاهد وآثاراً ومسارات، توازي صدوع الصدوغ، وشروخ الشاخصات السرمديّة، التي عبرتها الكائنات، وتعبرها من دون احتساب لحنقها أو رضاها!
لم أكن أقصد سوى أن يعبر الدخان أفق المتأمّلين أو الغافلين أو المتغافلين، علّ ذلك يشير إلى أنّ احتراقاً- لمّا يزل- في مكان ما وسمتٍ ما، من هذه الكرة مشوّهة الاستدارة، الدائرة بانهماك، يوازي– ربّما- محموميّة الكائنات؛ في سعيها إلى اتّكاءٍ ما، يساعدها على التوازن، أو التوهّم به، أو الإحساس؛ وبجدّيّة، تعادل انهماك كائناتها في اجتثاث الجذوع، وقذفها في أتون لا يَشبع، ولا يُشبع؛ وبعناد منعكس– رّبما- من– أو على– كائنات توغل في العبث، والتجاهل، والإصرار على أفكار بليت، أو قوانين تهرّأت، أو مطايا تعبن، وهرمن، ويئسن؛ وبتسارع يغذّي– قد يغذّي– سرعة الاتّصال، وتسارع الوصول إلى المجهول.
لم أكن أعرف، أنّ الأمر، يحتاج إلى كلّ ذاك الاحتراق، أو أنّ كلّ ذاك الاحتراق، يمكن أن يدفع بكلّ شعشعاته إلى بيادر يخضّبها، أو يسمح بصفّ جمراته في سطور وصفحات.
لم أكن أعرف أنّ الاسم الذي سيذيّل نصّاً أو يتقدّمه، أو يعبر مقالاً أو دراسة، سيكون صاحبه الذي انتشى لحظة، أو استراح برهة، لا يعدو أن يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار.
فمن أين لمن يأكل العصيّ من كلّ الجهات، أن يَعُدّها؟! أو يرسم لها شكلاً؟! أو يناقش حدودها ونتوءاتها؟! أو أن يميّز الآثار، التي تخصّه عليها، من بقايا قوافل الأجساد التي عبرت من تحت سوطها؟!
يحتاج الأمر- لا شكّ – إلى وقفة عن الوجع، أو توقّفاً عن الأنين؛ لكن.. هل تتوقّف العصيّ؟! وهناك من يَعُدّ، ويُعِدّ، ويتبجّح، ويدّعي، ويتفاخر، ويقهقه، ويبكي أيضاً؛ يصرخ ويتوجّع، وإن كانت العصا في يده توالي انهمارها على أعضاء الآخرين بلا تحديد أو تمييز، أو اهتمام بالأنّات والصيحات، التي تشرع، أو تنزّ عبر اللحظات المسودّة أو المحمرّة؛ فهل هو لا يعلم، وربّما لا يقصد؟!
سأكتب من أجله أيضاً– وقد أكون قد فعلت!–؛ أسامحه أنا إذن؛ كما توصي بعض وجدانيّات “ما بعد الحداثة” ؟! ألأنّه لا يعلم؟! أم لأنّه ما يزال تحت ركام الحداثة وأوهامها وأحلامها وخيباتها؟! المهمّ أنّ ذلك ليس بناء على تلك الوصايا؛ وكم أكره الحِكَمَ والوصايا!
كتبت ذات ربيع في مقتبل الثلث الثالث من العقد الثاني من هذا الشقيّ/عمري، شبه مقال أو ترويح، أذكر بعض ما جاء فيه:
“أحبّكِ، لا لأنّك طويلة أو قصيرة، أو لأنّ عينيك سوداوان أو خضراوان، أو شهلاوان كعينيّ.. أو لأنّك رخيمة الصوت كفيروز، أو قويّته وعذبته كأمّ كلثوم؛ بل لأنّك تحمّلتِ مسؤوليّة الحياة مثلي”!
والمفارقة أنّها لم تكن عذبة الصوت، ولا رخيمته. ولم تكن ناقصة الجمال، ولم أكن من دون اهتمام. ولم أكن قد خبتُ في علاقة معها، أو مع سواها بعد؛ بل كان ذلك في مستهلّ تلك العلاقة التي لم تطل. هل كان ما كتبت سبباً في تقاصرها؟! أتراها منّت النفس بكتابةٍ عن شعرها المنسدل، أو وجهها المشرق، أو ضحكتها الشهيّة؟! وحين سمعتْ ما قلت، فرّت؟!
ربّما كان ذلك من حسن حظّها؛ فلو سمعتْ ما كان يراودني قبل ذلك بنحو نصف عقد، ما ظلّ يراودني، وما يزال، لَما تكهّن أحد بما سيحلّ بها؛ كنت أفكّر بسؤال بسيط ومشروع؛ ما أزال أحسّه كذلك: لو لم يكن هذا الوجود موجوداً، ما الذي يمكن أن يكون؟!
سيظلّ هذا السؤال عالقاً في أفق حياتي، ومعبّراً عن فقدان الأمان أو الاتّزان في هذا الذي يجري، أكثر ممّا يعّبر عن خيبة من انتظار وجود آخر. وهذا أيضاً ممّا يقلق مفكّري “ما بعد الحداثة”؛ كما صرت أعرف؛ أقصد: مصير هذه القرية الكونيّة، التي تتقارب، وتتواصل؛ بل تنكمش، وتتماهى حدودها أكثر، من دون تواشج إنسانيّ حميميّ. وتتزايد الغربة والذاتيّة والعودة إلى التمسّك بالأصول والأعراق، في محاولة للحصول على هويّة، ضاعت في مفازات الحداثة، ومهرجانات نصرها المزعوم؛ تلك الهويّات اللازمة؛ استعداداً للمشاركة في حروب مدمّرة، ونهايات كارثيّة؛ لعلّنا نشهد الآن بعض فصولها؛ والقادم أعظم!
*
“الحداثة” بتكثيف شديد: ميلاد الفرد. (د.مجدي حافظ)
“ما بعد الحداثة”: تجزئة الفرد، وتناثره ذرّات. (فريدة النقاش)
وقد نشأت الحداثة مع ولادة النظام الرأسماليّ في أوروبا من رحم الإقطاع، بعناوين: التنوير في الفكر، العَلمانية في الحكم، والعقل وحده هو السلطة والمرجع. وتميّزت الحداثة الأولى بتفاؤل وثقة بالإنسان والسيطرة على مصيره، وحلمه بالعدل والمساواة/الاشتراكيّة. ما لبث أن انحدر هذا التفاؤل في حمّى الصراع ما بين المعسكرين: الرأسماليّ والاشتراكيّ، الذي بلغ أوجه في الحرب العالمية الثانية.
حينئذ انبثقت حركة “ما بعد الحداثة”. وإن كان البعض يرجع ظهورها إلى الثلاثينيّات من القرن الماضي. ويؤخّره آخرون إلى ستينيّاته، أو بما يعرف بـ”الحداثة العليا” أو “المتأخّرة”. وتواكبت حركة “ما بعد الحداثة” مع ثورات الاتّصالات والمعلوماتيّة والهندسة الوراثيّة، واستخدامات الذرّة، وهزيمة حركات التحرّر في العالم.
ومصطلح “ما بعد الحداثة” إشكاليّ، تنعدم فيه الحدود الفاصلة بين ما هو اجتماعيّ، وما يمكن تصنيفه كشأن ثقافيّ خالص. يقول (امبرتو إيكو) الروائيّ الإيطاليّ: هو مصطلح فضفاض، يُستعمل اليوم بمرونة مفرطة، ليدلّ على أيّ شيء، وحسب رغبة مستعمله وتأويله.
وفي الوقت الذي تجهد فيه الحداثة لتبديد الماضي، والإعراض عنه، بوصفه نكوصاً وحنيناً إنسانيّاً ساذجاً، أو تاريخاً أقرب إلى الحكاية، التي ينبغي الفرار من سذاجتها، تصرّ مرحلة “ما بعد الحداثة” على العودة إلى ذلك التاريخ، والانسجام معه عضويّاً؛ لا لتعيد بعض جوانبه، إنّما لتتفحّص قسماته بحسّ اكتشافيّ، يذهب بالذات الإنسانيّة إلى ما وراء ذلك التاريخ.
يرى (رولان بارت) أنّ مرحلة “ما بعد الحداثة” شديدة الإصرار على إبراز الحسّ الاغترابيّ للذات المبدعة، وعلى نسف أيّ مسوّغ للروح العقلانيّة، على عكس أدباء المراحل السابقة.
وتُتّهم الكتابة “ما بعد الحداثيّة” بأنّها لا تاريخيّة؛ خصوصاً من قبل التوجّهات الماركسيّة؛ لأنّها تعلي من شأن الذاتيّة، وتبالغ في التعويل على وعي الكاتب، وتغليب الخيال على الوقائع؛ بل تذهب إلى حدّ القطيعة مع الأسس الجماليّة القديمة. ومن ثمّ تسبّب قطيعة ذوقيّة مع القارئ العاديّ؛ مثلها مثل التمثّلات الفنّيّة والإبداعيّة الأخرى، التي لا تأبه كثيراً ببساطة المتلقّي العاديّ. وتحمّل الكتابةُ ما بعد الحداثيّة المتلقّي مسؤوليّة فشل القراءة، والكاتبَ مهمّة الوعي بسرّ الصنعة الفنّيّة، مع تأكيدها على فاعليّتي الاستقبال والتأويل، وحضور النصّ كتابة وقراءة على أكثر من مستوى. وتقترح صيغة واعية شبيهة بآليّة المحو والكتابة عند “كريستين”؛ لكنّها أكثر إصراراً على التدخّل في مركّبات النصّ التاريخيّة.
ومن خصائص الكتابة ما بعد الحداثية أيضاً:
– مغامرة اللغة أو التعويل على اللغة على حساب المضمون؛ أي أنّ طريقة الكتابة هي التي تهمّ، لا المضمون؛ أي الكيفيّة التي عبّر بها الكاتب عن نيّاته؛ بمعنى تطوير تقنيّة الكتابة؛ بحيث تضطلع حتّى بنية العبارة بتجديدات لفظيّة وشفويّة مغايرة، وذات مرجعيّات فكريّة وشعوريّة متحوّلة؛ احتفاء بجاذبيّات التشظّي وديناميّة التعبير القائم على التبدّلات الدائمة، التي تجعل الفنّ حالة من الحياة، لا صورة عنها.
– النزعة الأدبيّة المراهنة على الحراك، وزعزعة الثوابت الجماليّة والمنطقيّة.
– لا بدّ أن يكون الكاتب على وعي تامّ بنسيج الكتابة الداخليّ، وتعقيداتها، كمعلومات وأحاسيس، فيما لا يمكن أن يُرى، أو يُتلمّس بسهولة الأدوات وتقليديّتها.
– السرد ما بعد الحداثيّ يؤسّس لما تسمّيه البنيويّة “تطابق الألسن”؛ أي تكثيف الرؤية ودمج مركّبات الصوت المختلفة، وليس الاستئثار بحساسيّة الذات المبدعة.
– حضور الذات كمركزيّة للعمل الأدبيّ بقوّة وكثافة؛ أي وعي الذات وانقطاعها عن العالم (إيهاب حسن)، وتحوّل الخطاب إلى فلسفة.
– بروز التاريخ كعمق روحيّ وشعوريّ ممتدّ بشكل عموديّ وأفقيّ في العالم كعاصم ثقافيّ، تجد فيه الذات مهرباً وجوديّاً لنزعتها التدميريّة والفوضويّة/المزاجيّة.
– آليّة المحو والكتابة؛ بمعنى أن يعطي الكاتب لنفسه الحقّ بإعادة تركيب التاريخ بمرونة فائقة، فيها الكثير من الحذف والتصرّف، الذي غالباً ما يجنح إلى الخيال الجامح أو ما وراءه؛ تغليباً للمتوهَّم والمتخيَّل على الواقعيّ.
– الاستحواذ؛ أي الانتقال الزمانيّ والمكانيّ داخل التاريخ، وانتقاء حالة يمكن عدّها مركزاً، وإعادة إنتاجها كتابةً إبداعيّة برؤية عصريّة.
– فنّ القصّ ما بعد الحداثيّ شديد الارتباط باللغة السينمائيّة، وهيمنة الصورة عموماً؛ كما يشير (برايان مكهيل).
وممّا لا شكّ فيه، أنّ الكتابة ما بعد الحداثيّة، تتقاطع مع منهجيّات وأنماط إبداعيّة سبقتها.
*
تحتاج مراجعة ما كتبت من نصوص قصصيّة إلى تركيز؛ لأتذكّر أنّ ذاك الصدى كان من جرّاء ضربات على مقدّمة الرأس، أو أخرى على مؤخّرته، وأنّ هذا السائل الذي تجمّد خوفاً أو خيبة، وما يزال حاراً دافئاً من أجل أن أكتب، أو لأنّي أكتب، كان نتيجة طعنات في الظهر، أو قبضات في الصدر، أو ركلات في الجذع أو مخارز في العين.. لن تختلف الأحوال كثيراً، إذا ما انكفأنا إلى الداخل؛ فوخز الغرائز لا ينسى، وقوى التثبيط لا ترحم، والامكانيّات لا تجود، ولا الدهر يوافي..! فمن صدمة إلى تصادم، ومن خيبة إلى هزائم، إلى منادمة إلى مباكاة.. وما يزال صدى النصال التي تتكسّر على النصال يوجع..
ليس ذلك سهلاً، مع ذلك سأحاول..
*
ليس صغيراً هذا الكائن الذي خلق الإله على مثال صورته؛ ليس قليلاً وقد بزّ الكائنات كلّها قشرة دماغيّة، ووعياً أرقى، وتحليلاً واستنتاجاً، وارتساماً لمسارات، توصله حتماً إلى منصّة الخلاص الأرضيّة. بعدما يئس، أو تجاوز، أو تعالى على (حبال العرمط) السماويّة، التي لم تحتمل كلّ طلباته أو أوهامه أو ذنوبه؛ هذه الحتميّة، التي لم تتوقّف على تنظيرات الماركسيّة؛ بل ربّما كانت تلك خلاصتها، أو أكثرها وضوحاً، أو غروراً، وربّما فجاجة. لكنّ الكائن (الأرقى) مشى على الأرض مختالاً، وصعّر خدّه، بعد ما ابتنى المنشآت العملاقة، وأمّن الخدمات وسبل الرفاهية، وحيّد الله والدين، وقعد يمجّد حواسّه وغرائزه، ويبالغ في تحليلاته، ويوغل في الاكتشافات التخصصيّة؛ فنسي، أو تناسى المتعة، وأضاع لذّة البحث والاكتشاف، وأضحى كلّ ما في الكائن مادّة بحثيّة؛ ليس إلّا. وهو في طريقه أو طرقه تلك أضاع الهويّة؛ لم يحسب حساب الحدود والأسئلة الجديدة القديمة، بعدما ظنّ أنّ الأرض، بيدراً لأهوائه صارت، والأمداء ميادين لجموحه، الذي لا يحدّ، أضحت. لكنّ أشياء كثيرة بدأت تبرز في انفراغات هائلة، حدثت بين الحاجة والوفرة؛ فالمعلومات كنز هائل، قد يضيع المحتاج عمره من دون إشباع؛ لأنّه لا يهتدي إلى الجهات، التي فيها تلك الحاجات، أو نوعيّتها. وانفرجت وديان سحيقة بين الذروة والذروة؛ فعاد الكائن إلى دوّامة أشدّ وطأة، على الرغم من تزايد القدرات، وتضاعف الامكانيّات. فعاد إلى دفاتره العتيقة؛ مفتّشاً عمّا يعيد حضوره المعنويّ، وعمّن يساعده على التعرّف إلى بعض ماهيّته، حتّى لو كانت كائنات، طالما احتقرها؛ كلاباً وقططاً، أعطاها الحرّيّة والغذاء والدفء؛ لتعطيه الإلفة والقرب والمشاركة، أو كائنات تطير، احتبسها في أقفاص لتغرّد له، أو تنوح عنه.
ليس صغيراً هذا الكائن، لكنّه تصاغر، حين صارت الكرة الأرضيّة لعبة، أو ألهية، أو مطيّة؛ فانثقب الأوزون، وازدادت حرارة الأرض بما يهدّد بارتفاع منسوب المحيطات؛ نتيجة ذوبانات مطّردة في ثلوج، تراكمت عبر القرون؛ لتغيب- ربّما- مدن وشواطئ ومنشآت، وأوقات مسرّات وأحلام.
لكأنّي أرى ذلك الكائن راكباً على غصن كبير من شجرة مهمّة، لا شرقيّة ولا غربيّة، وبيده آلة حادّة، توالي حزّها على الجذع المتفرّع من الشجرة، وتحته من ينتظرون الثمار، وتهتزّ رؤوسهم مع حركات الحزّ وأصدائه. هذا المشهد لا يكاد يغرب عن بالي، في كلّ مرّة، أرى- أو أفكّر في – تلك الإنجازات الهائلة في مختلف الميادين. وربّما يقبع وراء العديد من النصوص، التي كتبت. أستشعر الخطر الذي يهدّدنا جميعاً؛ نتيجة هذا الفعل غير المسؤول. والأنكى أنّ الكائن ذاك يظنّ نفسه فاعلاً خيراً، وماضياً في طريق السعادة دونما رجعة. وأحاول تمثّل حال الذين هم تحت الشجرة، ينتظرون ما يطفئ جوعهم، بعدما امتلأت أدمغتهم بأوهام الشبع المزمنة، وربّما تدشّؤوا تخمة.. فهل ستفوتهم السقطة الوشيكة، قبل أن أنتهي من الكتابة عنهم، أو بعد ذلك؟!
لكنّي لست ظالماً إلى الحدّ الذي أحمّله فيه كلّ المسؤوليّة؛ فما أعتقده، أنّه لم يتحمّل الأمانة راضياً كلّ الرضا، ولم ينبرِ للراية من تلقاء نفسه؛ بل إنّه، وقد وجد نفسه في خضمّ معركة غامضة، لم يتهرّب، ولم ينكفئ على نفسه؛ تلك فضيلة لا تنسى. وسعى إلى خلاص، وهو المحاصر بالفناء القريب، الذي يمكن أن يفاجئه خلف كلّ أكمة، أو تحت أيّة حجرة، أو في غضون أيّ عتمة؛ وللمجتهد أجر، حتّى إن أخطأ! وتمنّى أن يساوي بين أبناء جلدته، حاول؛ حتّى إنّه في كثير من الأوقات، عاش الحلم الذي ابتناه، دونما إحساس أو قدرة على التذوّق.
أتراني أحاول تلمّس تلك الفضائل، ولو كانت فضْلات بين تلابيبه؟!
ربّما تعيد تلك اللحظات الإنسانيّة إليه/إليّ بعض الثقة بالنفس، وبعض الإحساس المجدي بالوجود. ما زلت أومن أن في كلّ منا، ومهما تضاغطت الظروف، ومهما اشتدت العواصف، إنسانيّة، تنوس، وتتوهّج وفق حالات ومواقف وأفكار ومشاعر؛ بتأثيرات معقّدة. ما أزال أومن بإمكانيّة إحيائها بلمسة حنون أو بسمة خجول.. وربّما كان هذا أكثر فائدة من الصدم العنيف، الذي يتكاثر في أيّامنا هذه. من دون أن أنسى، أنّ بعض الشرّ كامن أيضاً، وينتظر فرصة أو قوّة أو غفلة ليثور. والكائن العاقل، حين يستبعد العقل، ويستوحش، يبزّ الوحوش فظاعة.
ما زلت أذكر تلك القصّة، التي تتحدّث عن مبارزة بين الشمس والريح لإثبات ادّعاءات القوّة؛ إذ تراهنا على خلع عباءة أعرابيّ يسير وحيداً في الصحراء. بدأت الريح أوّلاً، وغابت الشمس خلف الغيوم. تمسّك الرجل بعباءته، حين اشتدّت الريح، وازداد تشبّثه بها مع ازدياد هياجها، حتّى يئست، فتراخت. وبرزت الشمس من جديد. ترك الرجل أطراف عباءته، حين بدأت أشعّة الشمس بالنفاذ إليه مستعرة باطّراد، ثمّ خلع العباءة ورماها على كتفيه، وهو يعجب من تقلّبات المناخ في حيّز ضيّق!
تهمّني، وتشغلني، وتؤسيني، نماذج البشر المهمّشين، الذين لم يقصّروا؛ وما أكثرهم! بذلوا جهداً مهمّاً في التعلّم، بالرغم من الظروف البائسة على الغالب. حصل كثيرون منهم على شهادات، وحافظوا على قيم، ولم يرتهنوا لكلّ دعوات الشذوذ، وإغراءات الحظوظ. فوجدوا أنفسهم في النهاية، أو على مقربة منها، مركونين مصلوبين باستقامات تحاصرهم؛ هم الذين حسبوا أنّ الاستقامة* أقرب الطرق إلى الغايات والأحلام. ووصلوا إلى نتيجة، تقول: إنّ الطبيعة لا تؤمن بالاستقامة؛ فلا شيء فيها مستقيم، وكلّ الاستقامات هي من صنع الإنسان أو توهّمه. وفي ذلك عودة؛ مرّة أخرى، إلى عدم تحميل الكائن كلّ المسؤوليّة؛ ربّما كان ذلك من مسؤوليّات العقل، لكنّ العقل أيضاً يحتاج إلى ظروف وشروط؛ كي يسود. ربّما كان النافذة –أو الكوّة*- التي منها ينظر إلى العالم. لكنّ هذه النظرة تختلف؛ قد تصبح النافذة واسعة جداً، فترى الأشياء بكلّياتها، فتضيع التفاصيل، ويتعثّر المسار؛ وتصغر أحياناً، إلى أن تصبح التفاصيل هي الأساس، فيضيع الهدف الأكبر.
وربّما تنغلق الكوّة، فيضيع الهدف والتفاصيل، ويسود الظلام.
يخطر في بالي أحياناً، أنّ التجربة الإنسانيّة برمّتها غير مقنعة. وأحسّ بأنّ المآل كارثـيّ حتماً. فأنشدّ إلى مفازات** أو دوّارات** تغيّبني حتّى عن رؤية ظلّي، أو صدى أنفاسي، أو أنفاس سواي. وأشغل، أو بعثر اللحظات –أحاول- في التبرّم، أو التساؤل، أو التنكّر، أو التغافل عن معنى الحركات، وجدوى العبور، ومسوّغ الذي يجري. أفكّر بالكائنات، التي كانت عاقلة، والأخرى التي لم تعقل بعد، الغافلة منها، والنادمة، والمتأمّلة. وأشفق عليها/عليّ، وأكتب.
هل هي غربة الذات، التي تحدّثت عنها “ما بعد الحداثة”؟!
لم أكن أقصد..
*
كنت مقتنعاً، وما أزال، بأنّ الأديب لا يختار؛ وهو بكامل وعيه وإحساساته، شكل نصّه، أو طريقة عرضه؛ بل الأمر يتعلّق بمجموعة من العوامل؛ أساسها: موهبة الكاتب؛ إضافة إلى ثقافته، ومهارته، وخبرته في هذا المضمار، وجرأته أيضاً. قبل ذلك، وبعده، تتدخّل قدرة الكاتب على تمثّل الحالة أو التماهي معها، والتفاعل مع تفاصيلها وأصدائها، من دون اهتمام بالمتلقّي أو التفكير فيه، والكتابة من أجله؛ مع احترامه له بوصفه ذكيّاً، وفهيماً، وقادراً على التقاط مفاتيح العمل الإبداعيّ المنجز.
ومن الأمور، التي أفكّر فيها، أو أقتنع، أنّ الإنجاز الناجح للعمل الإبداعيّ، لا يشمل بالضرورة كلّ أعمال الكاتب، ولا يتصاعد إيجابيّاً مع ازدياد العمر أو التجربة، بالضرورة أيضاً؛ بل إنّ نصوصاً لمبدعين، لهم باع طويل ومثمر في الإبداع، تمنَّينا، بعد الاطلاع عليها، أن يكون هذا المبدع ذو التاريخ العريق، قد توقّف عن الكتابة قبلها. ومن النصوص ما لا يكون مكتمل الأعضاء جنينيّاً؛ بل يحتاج إلى حاضنة؛ لأنّ الولادة كانت قبل أوانها، أو في شروط غير مناسبة.
أقول هذا الكلام، مع تقديري لأهمّيّة عمق التجربة واقعيّاً ونفسيّاً؛ هذا الذي يمكن أن يتأخّر؛ كما يمكن أن تبرزه الموهبة الخاصّة مبكّراً.
إذن؛ هل يأخذ شكل الكتابة شكل العصر أو السوق الأدبيّة؟! وهل يتعلّق النصّ بالأفكار النقديّة الرائجة أدبيّاً وفكريّاً وثقافيّاً بشكل عام؟!
وإذا ما كان النصّ منطقي التتابع الزمنيّ حدثيّاً، يكون تقليديّاً؟! وإذا ما تخلخلت تراتبيّة الزمن، ووهى الحدث، وتشظّت الفكرة، وتجرّأت اللغة على تراكيب واشتقاقات غير محفوظة أو مألوفة، كان النصّ حديثاً؟! أمّا إذا ما ترافق ذلك، أو استتبع بعودة إلى استلهام التراث أو الماضي شخصياتٍ ولغةً، وربّما تسطّحت الأفكار، وتبعثرت الرؤيا، كان ذلك ينتمي إلى ما بعد الحداثة؟!
من جهتي لم أفكّر، ولا أفكّر بشكل النصّ الإبداعيّ، الذي أكتب. لديّ ميل إلى تقطيع النصّ إلى فقرات، تقل أو تكثر؛ فوجئت ذات مهرجان بناقد صديق يقول بحقّ: إنّ إحدى قصصي تتألّف من ثلاثة عشر مقطعاً؛ لم أكن أدري، أو أقصد؛ ربّما تساعدني هذه الطريقة في الانتقال من حال إلى حال، أو من ظرف إلى ظرف، أو من قول أو مشهد.. بأيسر السبل، من دون الاضطرار إلى جسور قد تبدو واهنة أو مفتعلة.
وما زلت أميل إلى التقاط ملامح أو إشارات أو شزرات، يؤدّي تجميعها في نصّ إلى لوحة قصصيّة، من دون أن يكون الأمر مقصوداً. ويرى بعض نقّاد “ما بعد الحداثة”، أنّ اللوحة لا تكتمل، إلّا بمعرفة أو تصوّر أو تخيّل لِما بين السطور أيضاً.
وأجد مهمّاً بثّ جرعات معرفيّة ضمن السطور والمقاطع؛ كيما يصبح النصّ أغنى. وتختلف مقاديرها ومستوياتها حسب قدرة النصّ على احتمالها، وإمكانيّة الشخصيّة أو الحالة، والتوفيق ما بين العناصر الأدبيّة، التي تحتمل المعارف العلميّة أو الفلسفيّة أو النفسيّة أو سواها، من دون أن يبدو تعالماً أو استعراضاً أو إقحاماً يسرق من النصّ هويّته، أو يحوّر ألوانه؛ إذا وفقت في ذلك. قد يختلف راصدو هذه الإسهامات؛ يقلّون أو يكثرون. وتتباين درجات استقبالهم لها قبولاً أو رفضاً. لكنّ مثل هذه الإضافات تحفّز المتلقّي؛ كما أرى، على البحث عن الفكرة الأساس؛ سواء لتأكيدها، أو لمعارضتها. وفي كلا الحالين ربح للمتلقي وللمبدع أيضاً.
ومن النصوص لديّ ما يحتوي على أسئلة من دون إجابات، أو أنّ إجاباتها ما تزال إشكاليّة. وقد تكون الغاية من النصّ إثارة تلك التساؤلات، وإطلاقها؛ وخاصة تلك النصوص، التي تتناول موضوعات تتعلّق بالكينونة والوجود والكائنات والمصائر. وقد يتقطع الزمن، وينتثر، أو يتواصل دائراً أو متطاولاً، شاملاً بذلك أزمنة المراحل الحضاريّة الأساس. أقصد المرحلة الشفاهيّة؛ حيث الزمن دائريّ مرتبط بالعودة الأبديّة؛ فلماذا يتخلّف الزمن عن تلك المرحلة، التي درست؛ ليبقى في النصّ الأدبيّ حتّى هذا العصر، أو ما يمكن أن يتلوه؟! أليست المصائر ما تزال غامضة أو على كفّ عفريت؟!
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الكتابة؛ حيث الزمن طوليّ نابع من وسائل الكتابة التقنيّة، وإيقاعاتها التدوينية والأرشيفية والنقشيّة؛ هذا الذي يناسب مرحلة الحداثة؛ أمّا المرحلة الثالثة، فهي مرحلة المعلوماتية التسجيلية بأشرطة إلكترونيّة، ببنوك هائلة للمعلومات، وباتّصالية معرفيّة ذات إمكانيّات خياليّة؛ هذه المرحلة، أرست قواعد ما بعد الحداثة، وما بعد الفلسفة، وما بعد الحضارة، وما بعد الإنسان! وقد تميّزت هذه المرحلة بزمان ذي إيقاع جديد، يخضع للمعرفة الجديدة، يلغي الطوليّة، وإيقاعيّة التاريخ البطيئة: “التاريخانيّة”، ويفتح التسارعيّة الاتّصاليّة، ويأذن بانبثاق إنسان مختلف؛ حيث لا انعكاس للزمن، ولا حتميّة؛ فهل هو زمن ما بعد الحداثة هذا؟!
وقد تتعدّد الأزمنة في النصّ الواحد. كلّ ذلك من غير احتساب، أو تخطيط، ودون أن أقصد..
*
أذكر كلاماً لناقد، يتعلّق بجدليّة الغموض والوضوح في النصّ الأدبيّ، فيتحدّث عن إثارة هفهفة أطراف ثوب فتاة تمشي؛ الحال ستكون مختلفة، لو تطاول الثوب حتّى أصابع القدم، أو تقاصر حتّى ينكشف المستور!
هو الغموض الشفيف الموحي المثير، المحفّز للبحث والمتابعة والتفكير؛ إذاً.
لماذا غموض الإبداع في الحداثة؟! وهل هو غموض حقاً؟!
“إنّ الحداثة العليا ( في الستينيّات من القرن الماضي)، أو “ما بعد الحداثة”، قد ولدت دفعة واحدة مع الثقافة السلـعيّة المعمّمة. وهذا ناتج بسبب تكوينها الداخليّ، وليس من مجرّد تاريخها الخارجيّ. إنّ العمل الفنّـّيّ، يقاوم إسباغ طابع السلعة عليه، ويعضّ بالنواجذ ضدّ تلك القوى الاجتماعيّة، التي تنحطّ به إلى مرتبة شيء قابل للتبادل إلى هذا المدى؛ فمن أجل صدّ الاعتزال إلى وضع السلعة، يضع العمل الحداثيّ المرجع أو العالم التاريخيّ الواقع بين أقواس، ويكثّف أنسجته، ويشوّش أشكاله؛ ليجهض قابليّة الاستهلاك الفوريّة، ويلفّ نفسه بلغته الخاصة بصورة واقعيّة؛ ليصبح شيئاً هو غاية نفسه على نحو غامض؛ متحرّراً من كلّ تعامل ملوّث مع الواقع، ومستغرقاً في تأمّل ذاتيّ في وجوده ذاته.” كما تقول فريدة النقاش.
ليس هذا فحسب؛ بل إنّ الإعلام بسطوته المتزايدة، أثّر، ويؤثّر في الأدب شكلاً ومضموناً؛ فهو من ناحية، يغذّي الخيال بالصور، ومن جهة أخرى، يفقره في تحليق الخيال، ويسلبه قدراته الإبداعيّة؛ فالكثير من الانتاج النقديّ والأدبيّ، في زمن الحداثة العليا (المتأخّرة)، غامض، مقلق، مكتف بذاته، سعيد بتقطّع كلّ أواصر العلاقات بينه وبين المتلقي. كأنّما هو حالة دفاع عن النفس، وانتقام لها في الوقت نفسه؛ حيث تنزعه الصورة من عرشه، فيوغل في تعقيد الشفرات، حتّى ليعجز المرسل إليه عن قراءتها في عالم، يشعر فيه الإنسان أنّه أصغر من أيّ وقت، وأكثر عجزاً ممّا كان في زمان سطوة العقل وتفاؤله.
ولكن هل هذا يسوّغ، أو يفسّر قضيّة الانغلاق في النصّ الأدبيّ عموماً، وفي سبعينيّات القرن الماضي خصوصاً، أو في أيّة فترات لاحقة؟!
وماذا سيكون (كان ويكون) عليه الحال إذاً في ما بعد الحداثة؟! حيث شركات متعدّدة الجنسية، ورأسماليّة تابعة، تلحق الخراب، وتهشّم الإنسان وتسحقه، وتدخل البنوك الكبرى حتّى إلى القرى.
لو كان العمل الفنّيّ سلعة حقاً، سيسلّم بذلك، وسيحاول أن يجعل الجماليّ اقتصاديّاً؛
أي أنّ ثقافة “ما بعد الحداثة” ستذيب حدودها الخاصّة، وتصبح متشاركة في الامتداد مع نفَس الحياة العاديّة المصطبغة بالطابع السلعيّ. وفي هذا السياق، تأتي نماذج كثيرة من الكتابة الأدبيّة في القصّة، والشعر، والرواية وسواها، من حيث البساطة المدهشة، والوضوح الخالص، مقترنين أحياناً بفجاجة، تكاد تؤلم ذاتها، في نوع من عدميّة جماليّة.
إنّ التوتر الداخليّ في النصوص، ينمّ عن الصدمة الهائلة، التي تعرّضت لها البشريّة، قبل أن تفيق من صدمة الحداثة، فتفقد كلّ اطمئنان؛ إذ أصبح الوعي العلميّ/رهانُ الفكر التقدّميّ موضعَ تساؤل؛ إن كان بمقدوره أن يكون بديلاً عن التعيين الدينيّ.
*
لم أكن أقصد..
ولا أظنّ أنّ أحداً يكتب من فراغ، أو أنّ في استطاعة أيّ منّا أن ينبتَّ عن عصره الثقافيّ، بيئته الثقافيّة، وفضائه المعرفيّ.
ولكنّ هذا لا يعني أن يسرد أحدنا نصّه القصصيّ كما تقتضيه “الحداثة”، أو ما تريده “ما بعد الحداثة”، أو تفرضه. ولا أن يجعل النصّ غامضاً منكمشاً معزولاً؛ كما في أدب “الحداثة”، أو منتثراً مبتسراً؛ كما في “ما بعد الحداثة”.
وأقول:
احترقت فكتبت، وكتبت فاحترقت. وليس منطقيّاً الوقوف طويلاً- على الأقلّ من قبلي- عند الطريقة، التي تمّ فيها الاحتراق أو التوجّع، أو شكل الشعلة وألوان اتّقادها؛ ربّما يكون هذا من عمل من أصابعهم بعيدة عن الجمر، على الرغم من أنّ ذلك قد يقلّل من قدرتهم على التقويم!
أقول:
أعيش ما دمت أكتب، وأرجو أن أكتب ما دمت أعيش.
وأذرف روحي على الخطا والأنفاس، وأرنو إلى الآخرين؛ لأقرأ أنّاتهم، وأتقرّى دخان احتراقهم، وصدى آهاتهم، حتّى تلك الكامنة منها، وإن كانوا في أيّ موقع من هذه الدوّارة اللعوب.. وإن كانوا لا يعلمون!
تُرى.. هل هذه الدوّارة تقصد؟!
تُرى.. ألم أكن أقصد..؟!!
***
غسان كامل ونوس
المراجع:
– ملف الحداثة وما بعد الحداثة- موقع مرايا.
– مقال للأستاذ محمد عباس في إحدى المجلات.