شهادة
الدوّامة!
غسان كامل ونوس
لو لم يكن هذا الذي يجري، ما الذي كان يمكن أن يكون؟!
تساؤل خَطرَ ذات إشراق أو انعماء، احتراق أو انطفاء؛ وما كان قد مضى على بداية العقد الثاني سوى القليل.. تشاطرٌ أو انهمام، تظاهرٌ أو انكباب.. تضاحك منه الأقربون، قبل أن يكتئبوا، استخفّ به العارفون، قبل أن يتطيّروا؛ نصحوا بأشياء، وتهرّبوا من تبعات: “ولا تَزرُ وازرة وِزرَ أخرى”!
لو لم يكن هذا الذي يدور بنا، حولنا، أبعد فأبعد..
العالم والكرة الأرضيّة المعلّقة من انجذابها إلى الشمس؛ الشمس التي لم يجنّبها احتراقُها انشدادَها إلى مركز آخر أشدّ احتراقاّ.. ربّما!
تساؤلٌ فسؤالٌ فقلق، لم تخفّفْ من تفاقمه سُوَرٌ وعلوم ومعارف.. ولم تغيّبْه حكايات وسير وأساطير، ولم يكبته تخويف، ولم يطفئه بلوغ، ولم يبرّدْهُ سكوت عن الكلام غير المباح!
عالم وعوالم، كون وأكوان.. أين وكيف.. بعدَ لماذا!
وما الذي يربطها؟! وما هي المعابر بينها؟! الثقوب السوداء، التي لا يخرج منها حتّى الضوء؟! فما الذي يعبر إذاً؟! ولماذا هي ممرّات ماصّة إلزاميّة خرافيّة؟! ولماذا كنّا وكان؟!
سؤال ولا جواب!
وأسئلة تتوالد وتتشعّب من دقائق الأشياء إلى كبرياتها، من تلك التي لا تُرى، إلى تلك التي لا تحدّ! وبينها هذا الكائن يتوه، أو يهيم، أو يتحصّن.. يتوهّم، ويتضخّم كلّما صعد بصخرة سيزيف مسافة ما في السفح الوعر المنحدر؛ “ففيه انطوى العالم الأكبر”!
*
الكترونات تدور حول النواة، كواكب تدور حول الشمس، شموس تدور حول مركز المجرّة، مجرّات تدور حول مركز الكون، أكوان تدور حول ماذا؟! وماذا هناك؟!
فراشة تدور حول ضوء الكاز، عاشق يدور حول طيف محبوبته، بالغ يدور مع شهوته، كائنات تدور حول مرقدٍ في مزار القرية والقرى الأخرى، وكائنات مشابهة، تطوف حول الكعبة..
كلّ يدور، فكيف الوصول؟!
*
الكرة أكثر الهياكل قلقاً، في السيطرة عليها بأيّ طرف وأيّ مكان، اقتدارٌ ومهارة وفوز.. فكيف إذا ما أصبت بها حيّزاً، صغر أم كبر؟!
هل هو تفسير لانشغالكم المجنون بالكرة التائهة في مساحات شحيحة، في قريتكم اللائذة بالجبال؛ كما في كلّ العالم؟! وهل يحتاج الأمر إلى تسويغ؟! وهل هذا الأمر الأهمّ، الذي يحتاج إلى معرفة الأسباب؟! وكم هناك من القضايا المعلّقة.. كانت وما تزال؛ فهل ستبقى؟!
•
تمسك بثمرة السنديان، تنزع قبّعتها الشوكيّة، تغرز في صلعتها الطريّة عوداً، تديره بإصبعيك بسرعة، وتلقيها على مساحة ملساء، تدور “الدوّامة” على رأسها المدبّب؛ متمايلة متراقصة مستقرّة زمناً ما، ثمّ تسقط بلا حراك!
لعبة مسلّية في القرية، التي لا تتحرّك فيها الأشياء بسهولة، لكنّ ضغط الحاجات لا يرحم، وفي حَراكها هذا إحساس بالحياة في أحياز منحدرة وعرة، وفضاءات محدودة بالحراج المتكاثفة، وبما استصلح فيها من أراض، تنابت فيها الزيتون؛ وفصول تقسو وتلطف، وليال تتطاول، وتتقاصر، وجهات لا تنفتح بيسر، ولا تُجابُ إلّا بهمم، تتحمّس حيناً، فيسارعون إلى خارج الحدود، قبل أن تنوس إلى حال كالموات. على الرغم من أنّ الجميع يردّدون: في الحركة بركة..
والدوران مبالغة في الحركة، وإحساس طاغ بالحياة..
هكذا صرت أفكّر بعد لأي وقنوط، ومراودة بالانتهاء من هذا الكابوس بشكل غير محمود!
ثمرة السنديان أو البلّوط، وأشياء أخرى مشابهة، وحركتها، صارت مثالاً وعبرة؛ تظلّ واقفة، طالما بقيت في حال دوران بفعل ما، وتسقط ميتة بعد ذلك؛ النيازك تضرب الأرض متماوتة محترقة، بعد أن ضاع منها الدوران!
ذاك التساؤل/السؤال هو المحرّك الذي يجعلني أحسّ بالحياة؛ فكيف أفرّط به أو بنفسي؟!
•
لم يتوقّف الدوران على “الدوامة”؛ بل صار الدافعَ إلى مسار ومسارات؛ بحثاً عن مستقَرّ، بتّ على ثقة من أنّني لن أصل إليه. ولن ألوم نفسي أو أخطّئها، كما فعل العاجزون، الذين تمثّلوا الوهم، وارتضوا خطيئة، لم يرتكبوها، أو لم يكن ذلك بإرادتهم، واستعذبوا عقاباً لا يفيد؛ الأغرب أنّ لديهم أجوبة، حتّى عمّا لم يسألوا؛ هل الخوف من الدوران، أم أنّ الدوران بلا طائل أو أمل، هو الذي أضاع القدرة على التفكير أو الاحتمال، فصار القبول بلا اقتناع، أو التسليم، أم أنّه العجز؟!
هو الدوران/البحث إذاً؛ وسائله ما في الفكر من حيويّة، وما في الكائن من طاقة وعزم وإرادة، وما في اليد من حيلة، وما في الخيال من إبداع!
واللغة وسيلة الإبداع، التي تخيَّرَها شغفك واستمتاعك؛ بل فرضت نفسها على حيّزك قراءة وكتابة، بإمكانيّاتها، وفضاءاتها، ومتعها، وأشكال التعبير الممكنة بها..
*
قبيل الغروب، عدت من المدرسة الإعداديّة، وكان إلى جوار طبق القشّ، الذي تتناول من الصحن الذي فوقه الطعام، كتاب يختلف عن كتب المنهاج، بدا ذلك من غلافه وحجمه، فتحته في مكان يتجاوز ثلثه ربّما، وبدأت القراءة، نسيتَ الطعام والدروس والوظائف والوقت على الرغم من تنبيه والديك، حتّى انتهيت منه قرابة منتصف الليل. الكتاب؛ كما أذكر، كان رواية لـ(بيار روفايل)، أحضره أخي الأكبر محمد، الذي كان لاهتمامه الثقافيّ دور في تواجد الكتب المتنوّعة في البيت على حساب مصروفه الشخصيّ. وكانت بيوت قريتنا الطينيّة تتبادل الكتب والسير والروايات، وتتحدّث عنها، وقد لا يختلفون حيالها..
قبل ذلك بقليل، حزنت لانتهاء صفحات عدد “أسامة”، الذي هلّ على المدرسة، قبل منتصف المسافة إلى البيت، وقد تسلّمته؛ لتفوّقك، أوّل طالب؛ لإعادته في اليوم التالي.
أوّل كتاب قصصيّ محلّيّ، وقع بين يديّ، في تلك الفترة؛ ممزّق الغلاف، كان “صور من حياتنا” لكاتب طرطوسيّ رائد هو (محمد المجذوب)، وما تزال أصداء تلك الصور، تتردّد في الذاكرة، التي انهمّت بالإحساس، الذي تراوح بين التصديق لواقعيّتها أو إمكانيّة ذلك، وبين التخيّل، الذي أسهم فيه الأداء اللغويّ والقصصيّ؛ لم يُهتمَّ بتجربة الكاتب، الذي توفّي منذ أعوام في اللاذقيّة، بعد سنوات طويلة قضاها خارج القطر (في السعوديّة ربّما)؛ كما لم يهتمّ بتجربة رائد آخر من طرطوس أيضاً؛ هو “محمّد الحاج حسين”، تعرفت إلى كتاباته منذ سنوات.
وقبل ذلك، ربّما، وبعده، كان لمئات الليالي من ألف ليلة وليلة حضور مثير؛ بنسختها غير المهذّبة ممزّقة الغلاف والصفحات أيضاً؛ كما كان للسِّيَر الشعبيّة المطوّلة دورها في الانجذاب للمتابعة السحريّة والبطولات الخارقة والأحداث الغريبة؛ أمّا الأساطير، فقد جاءت في مرحلة تالية، حين صارت زيارة المركز الثقافيّ في صافيتا دوريّة، بعد انتقالي للدراسة في الثانويّة هناك، وقد مررت على غالبيّة القصص والروايات العربيّة والأجنبيّة، ووجدت في الكتب، التي لها طابع فلسفيّ، مقاربة مناسبة لما يشغلني؛ ما يزال، وكان السؤال الذي أطلقته فتاة فرنسيّة صغيرة في إحدى الروايات مواسياً: أبي لماذا نحن موجودون؟!
ولم تكن الإجابة في الرواية مقنعة، ولا خارجها!
*
لم تهتمّ الكتابات، التي بدأت في مقتبل العقد الثاني، بالجنس الأدبيّ.. تلك الكتابات التي توزّعتْ في عدد من الأجناس، يريدها البعض تهمة، فيما أراها غنى، ولا سيّما أنّني، إلى الآن، لا أنشغل كثيراً بالتحديد الصارم لتلك الأجناس، ولا بأس في التداخل والتشكيل، الذي يغري، ويثري، ولا يضيّع الجنى في آناء البيدر ومفارق الدروب..
وكنت وما أزال أجد في الكتابة مزيداً من الدوران، الذي يمثّل الحركة، التي أنشغل بها عن الجدوى؛ بل إنّ في ذلك الجدوى، مع ما يفترض تقديمه من جرعات وتساؤلات وزفرات؛ فالأمر ليس لهواً ولا تهويماً ولا ثرثرة بلا ملامح أو آلام أو تطلعات.. ولعلّ في محاولة الكتابة تماهياً مع الحال المحيّرة، والمصائر الغامضة في ظلّ أقدار بعيدة، ينسب إليها الكثير ممّا تتحمّل مسؤوليّته الأقدار الأرضيّة، التي لا تقلّ ضراوة وكارثيّة.
فمصادر القلق المقيم، لا تنحصر بالغموض الكونيّ وتبعاته؛ بل تتزاحم الأسباب في معركة غير متكافئة؛ مغالبةً للحياة العصيّة: الفقر والبرد، والوعورة في السفوح والأودية والذرا والأنفس والعلاقات والنداءات والألقاب، البيوت الحجريّة المسقوفة بالخشب والطين، الطريق الترابيّة والسيّارة الوحيدة ورحلتها اليتيمة، المدرسة التي تبعد كيلو مترات، معاناة الوالدين في تأمين الحدود الدنيا ممّا نرغب؛ بل نحتاج إليه، الظلم الذي يسود في مفاصل كثيرة ومواقع عديدة، تسمع أنباءه عبر النافذة الوحيدة على العالم معارف وأحداثاً وألحاناً/ المذياع الذي لم يكن غيره أنيساً، ولا غير الكتاب جليساً في مختلف الأوقات الممطوطة في الأصياف القائظة، والمتضايقة في الشتاءات، التي كانت قارسة، ليس لشدّة العواصف ودوامها فحسب؛ بل لانعدام ظروف المواجهة المناسبة في حدودها الدنيا؛ المذياع الذي يستحقّ أن تلحّ على والدك، وتتوسّط والدتك؛ ليسمح لك بمصاحبته في الرّعي والسهر، لتتابع ما يذاع من أدب، ومن لغة فصحى مقروءة ومغنّاة، وما يبثّ فيه من مسلسلات وأغان وبرامج؛ منها ما بتَّ تراسله؛ لتسمع رأياً مشجّعاً لأصحاب المواهب الجديدة، وما يقدّمه من الحكايات، التي تختلف عن حكايات الجدّة المتردّدة المتباعدة، وقد لا تختلف كثيراً عمّا يقصّه أبوك وأترابه من حوادث مؤثّرة، وقعت في أثناء عملهم خارج البلد وداخله؛ معاناة وعدم إنصاف، وفروقات بين كائنات تتشابه أعضاء ولغة ومشارب، وتتمايز إلى درجة التناقض سلوكاً وعادات وإمكانيّات وهموماً.. كنت تسمع تأفّف والدك فجراً، أو لدى سماع أيّة وجبة إخباريّة، لا تسرّ، عن أحوال الأمّة المعكّرة، وتفرح لسعادته الصاخبة حين وئام أو انفراج، وبتّ تعرف أنّ عدواناً أمريكيّاً متواصلاً على فييتنام، وطائرات عملاقة تقصف هانوي وسواها على بعد آلاف الأميال، وأنّ هذه الـ أمريكا تدعم الكيان الصهيونيّ، الذي اغتصب فلسطين، وتستمع باعتزاز ولهفة إلى بيانات العمليّات الفدائيّة في الأرض المحتلّة والرسائل المرمزة، وتُستثار برسائل اللاجئين الغاصّة، يطمئنون أهلهم، الذين ظلّوا هناك، ويتطلّعون إلى الاطمئنان عنهم.
وما يزال الكثير من الأخبار لا يسرّ، على الرغم من أنّ بعضها يشرق، ويتصاعد مقاومة وصموداً وتضحيات. وما نزال نتطلّع إلى الاطمئنان عن الذين ما يزالون يعانون تحت الاحتلال، ونتمنّى الخلاص من كلّ ما يعكّر الأوقات والأنفاس، ويخز مراكز الشعور والإحساس لهذا الكائن المعذّب، محاولين الإسهام في ذلك ثقافيّاً؛ كتابة وإبداعاً ونشاطات، آملين أن يتجاوز ذلك أضعف الإيمان.
*
والقصّة سبيل للبحث عن طريق اللغة، وفي الرّوع أشكال أخرى..
وليست القصّة كائناً مكتمل المواصفات، معيّن الحدود والشروط؛ كما لا يمكن أن تكون بلا علامات فارقة عن سواها من الأجناس الأدبيّة، التي لم يُختمْ على خصائصها وعناصرها أيضاً.
وبما أنّني قد خوّضت أيضاً في رحاب الشعر والرواية والمقالة.. فيمكنني أن أتحدّث عن القصّة وسواها بودّ، لا يعكّره التحزّب لجنس من دون آخر، ولا يفسده الكلام المختلف، ولا تشوّشه المواقف والآراء تجاه نَسَبِهِ ومدى حضوره في المشهد الثقافيّ، وسيادته أو قصوره؛ ولا أرضى عن إهانته؛ بربطه بعصر السرعة، ولا أقبل بوسمه بقِصَر النّفَس؛ كما لا أميل إلى الدخول في سجال حول سهولته أو صعوبته؛ قياساً بالرواية، التي تُمنَحُ جائزةَ عدّها ديوانَ العصر، بعد أن ظلّ الشعر محتكراً لها طوال قرون، من دون أن يقلّل هذا، في نظري، من سموّ الحال الشعريّة وقدرتها على الطواف اللامحدود؛ جهاتٍ وأعماقاً جغرافيّة ونفسيّة وزمنيّة..
وإذا كان للشعر فضائل التحليق الخلّاق، والهطل النبّاض، والتقصّي الخوّاض، والتشهّي الفيّاض.. فإنّ للنثر فضائلَ التقرّي الحسّاس للتضاريس المادّيّة والشعوريّة؛ إضافة إلى الغوص والامتداد مسافات وفضاءات بدرجات مختلفة.
فالرواية قفزات متسارعة أو متباطئة، تطول أو تقصر، وجَوَلان متعدّد الخبرات والأدوات والعناصر، في أقانيم الحياة وفصولها؛ أمّا القصّة فخطو محسوب أو محسوس أو مرغوب، يتناثر أو ينتظم في حيّز أو أحياز مختارة بمهارة، أو متوضعّة بحدس وخبرة..
وإذا كانت الأمور في القصّة محدودةً صفحاتٍ وعناصرَ وكائنات، فهي غير ذلك إشعاعاتٍ وخياراتٍ وآثاراً وأصداء.. وتستطيع الموهبة أن تشحن النصّ القصصيّ بالطاقات المتنوّعة وإمكانيّة التخلّق الذاتي؛ كالذرّات المشعّة في محيط عاتم، وتستطيع الخبرة أن تخلّص هذا الكائن المحبّب من الاستطالات المتهدّلة أو القصور المبلبل؛ فالقصّة ليست قطعة من الحياة فحسب؛ معيشة أو ممكنة أو متخيّلة، ولا حادثة مهما كانت مؤثّرة أو مثيرة، ولا مشهداً موصّفاً بدقّة أو عاطفة، ولا إنارة كاشفة لركن معتم أو نزوة عمياء، وليست تشخيصاً بيولوجيّاً لكائن أو عنصر، أو تقويماً أخلاقيّاً لموقف أو سلوك، أو تصحيحاً سيكولوجيّاً وعلاجاً إسعافيّاً أو آجلاً..
إنها قبل كلّ ذلك، أو بعده، أو مع بعضه، فيضٌ من لدن القاصّ، ونبض مختلف الإيقاع، وانبثاقات متعدّدة المنابع، مختلفة الإضاءة، متداخلة الألوان..
فأيّة مهارة يتطلّبها أداء رقص مميّز في وقت قصير وحيّز ضيّق؟! وأيّة إمكانيّة تجعلك تتخيّر مواقف وأماكن وعناصر؛ لتقدِّمَ؛ مجتمعة أو متفرّقة، معنى متجدّداً أو إحساساً متوالداً؟! وأيّة ألغاز تمنحك القدرة على تخليق كائن قابل للحياة والحيويّة، من أعضاء متناثرة لكائنات أخرى، قد تختلف تلويناً وانتماءات وغايات..؟!
وأيّة طاقة تدفعك إلى إطلاق كائن حرّ مقْنِع بعلامات فارقة وتاريخ محدّد، قابل للعيش في زمنك؛ كما في زمن مختلف، وشروط وظروف أخرى..
وكم أنت محقٌّ أن تسعى لتكون لك خصوصيّة بين كثيرين من كتّاب القصّة؟! وكم ستكون سعيداً؛ إذ يشار إلى نصّك بما هو نتاجك..؟! وكم ستكون منتشياً حين يستطيع نصّك أن يعيش بعيداً عنك زماناً ومكاناً، من دون الحاجة إلى رعايتك له، وشرح غاياته، ورفعه على أكتافك..؟!
والأجمل أن يتباهى بنسبه إليك؛ بدل أن تدور به، تناهضه وتقوّيه..
والأهمّ أنّي مشغول بالتنافس المحموم مع تجربتي، وهو الأقسى والأطول والأكثر حساسيّة وقلقاً من أيّة منافسة مع الآخرين، الذين لا أحسّ حيالهم بأيّة غيرة أو انقباض؛ بل على العكس من ذلك، أشعر بالغبطة إزاء أيّ نصّ مميّز من أيّ جهة أتى، وتزداد الغبطة إذا ما كان اسم صاحب النصّ جديداً، وللنصّ جدّة ومفارقة..
وإذا ما كنّا نفرح لوجود قارئ لا نعرفه؛ ناهيك عن حضور مهتمّ أو متابع، فما بالك بمن يكتب، وما أدراك ما تعني الكتابة من انفعال وتحرّق وتضحية؟!
وعلى الرغم من أنّ الإبداع ليس أمراً عاديّاً ولا متاحاً للكثيرين، فإنّ الذين يكتبون، ليسوا من جنس الملائكة، لا تأتيهم النزوات والشرور أو المشاعر العاتمة من أيّ سمت؛ داخلاً أو خارجاً؛ بل إنّ الحال محفوفة بالأخطاء والانزلاقات والشطحات والأشواك والمطبّات والطعنات والأثواب المقدودة من قُبُلٍ ومن دُبُر؛ وصولاً إلى جريرة الإلغاء لمجرد كلام مخالف أو رأي ناقد، أو مصوّب مقوّم من وجهة نظر أخرى..
لكنّ “المطر يبلّل الخيّر أكثر من الشرّير؛ لأن الشرّير يكون قد سرق مظلّته”!
عبارة سمعتها ذات “مرحباً يا صباح” من إذاعة دمشق، ما تزال تطوف في ذاكرتي؛
فهل هي مواساة، أم محاولة تأسٍّ؟! أليس في القراءات والمتابعات من خيبات ونكبات ومكابدات تأسٍّ ومواساة؟! أليس في الكتابة ما لا يكاد يفترق عن ذلك؟!
في تقديري أنّ أسَّ الإبداع حزين؛ ولعلّ أجمل الحزن ما لم يكتب بعد!
***
غسان كامل ونوس