الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي-ليس آخراً
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

الظروف!
غسان كامل ونوس

بسبب الظروف لا أستطيع الكتابة ولا القراءة، ولا التفكير؛
بسبب الظروف لا أنام جيداً، ولا أحس بالراحة ولا بالأمان؛
بسبب الظروف لا أبيع ولا أشتري، لا أزور ولا أزار؛ لا أبارك، ولا أشارك إلا في المآتم والأتراح!
بسبب الظروف اختصمت مع أهلي وأسرتي، وتباعدت بيني وبين أصدقائي الأوقات، وأجد نفسي في توتر وتنازع مع.. نفسي.
عافتني الرؤى وجَفتني الأحلام، وغادرتني الأماني..
وألقتني الدروب إلى لا مستقرّ ولا جلاء أو خلاص.
وأنكرتني المحطات، وانطفأت نوافذ التأمل، وشحبت أحياز الشرود؛
بسبب الظروف ناس سراجي، واهتزت مرساتي، وتلملم شراعي؛
بسبب الظروف لا أعيش، ولا أموت “كما يموت البعير”!
*
بسبب الظروف صرت معروفاً وموصوفاً ومهاباً ومستجاباً؛
بسبب الظروف بتّ صياداً فذاً، لا تستطيع فراشة أن تهرب من نفثاتي؛
بسبب الظروف صرت جلفاً، أصمّ أمام الاستغاثات؛ أبكم أمام التساؤل والتوسل والاستعطاف؛
بسبب الظروف لا أحسّ بأسى، ولا أشعر بتوعّك، ولا يهتزّ مفرقي للخراب والحرائق، ولا تقام الواجبات، ولا تنفذ المهمات، ولا معنى للمسؤوليات، ولا يتواصل طريق؛
بسبب الظروف لا أعرف صاحباً، ولا أعترف بألفة، ولا أداري حتى السفهاء، ولا أستمع إلى نصيحة، ولا أقبل برأي، ولا أهتم لشكوى أو أنين؛
بسبب الظروف لا عرف ولا قانون، ولا جيرة ولا أتراب ولا رفاق زقاق أو حارة، ولا مشاكسة أو مسامرة مع اللدات..
*
بسبب الظروف
أتشقق كجذع هرم مع أني ما أزال ناهضاً في معترك الفعل، ومشرَعاً في شرفة الحياة.
أنوس كسراج شحّ زيته، والشعلة ما تزال تتنابض بلهفة وهمة.
أتصدع كصخر تتناهبه الهزات.
أتمرغ في أتون المواجع وغبار الانهدامات.
أتناثر كشَرارٍ عاثر، وأتلاشى كهباب داشر.
أتنازع كشوارد متماثلة، أتناهب كوليمة وحشية!
*
بسبب الظروف
أستمر في موقعي، ألاحِق وأضايق، أدقق في الصغائر، وأهمل الكبائر؛
أمارس هواية الصيد في العكارة، وتعكير ما لا يزال صافياً، وتيسير إغراق الضحايا!
أرفع الصوت جهاراً للتمويه والتشويش والإلهاء والإيهام بالجرأة والإقدام والثقة، وأتهامس لإظهار الحرص والأمانة والاهتمام!
بسبب الظروف
ألتقي بجميع الأطراف، وأوافق جميع الخصوم، وأغالط القادرين، وأستفزّ المقهورين، وأحرض المترددين، وألوم العاجزين، وأتقدّم المحظوظين!
بسبب الظروف
أنافس بلا كثير حذر، وأنتهز الفرص، وأقاتل على المصالح، وألعب على الحبال، وأتحايل على المواقف، وأساوم على الأدوار..
وأراهن على الظروف!!
*
بسبب الظروف
أتنازل عن حقي، حتى في ردّ الظلم، أتواصل حتى مع ندّي النافر، أتخلّى عن نزقي وضجيجي كبادرة حسن نوايا، مع كل ما تقدم من إشارات وعلامات، في سبيل الفرص الممكنة للاستماع والإسماع.
أتعالى على وجعي، ولي مشاعر وأحاسيس أيضاً؛ أتحامل على قهري، ولي حاجات ومتطلبات ورغبات؛ أتعايش مع علقي وصديدي..
بسبب الظروف
لا أبيح لنفسي تجاوز الحدود المرئية والقيمية، والتمادي في الخروق النفسية والمادية، وامتهان الضروع الخلقية، واقتفاء المروق والفسوق..
*
بسبب الظروف
أقيم العثرات، وأرفع الموانع، وأحدد الشرائع، وأختار الشعائر، وأعلن الفتوحات، وأمارس البطولات، وأفسر وأقرر وأحرر، وأَسود بما في يدي وما في جعبتي ورصيدي، وفي نيتي ونزواتي، وأستقوي بعلاقاتي التي لا تتوقف على صاحب سلطة ونخوة وجود، ولا تنكفئ عند حدود.
*
بسبب الظروف
أستند إلى يقيني، وأستنفر طاقتي، وأرضى بقدري، وأسعى إلى غايتي بلا تخاذل أو تحامل، وأتابع خطوي ومساري، وأتحاشى أن أؤذي حشرة، ولا أتردد في التخويض في الطمي والتربة الموحلة، ولا أبخل بالقول الواثق، ولا الفعل الصادق..
بسبب الظروف
قبل الظروف وبعد الظروف أبقى على قناعاتي، وأحافظ على الانسجام بينها وبين ما يرتسم من أناي على الأرض، وما يطوف في الفضاء من أفكار وأصداء، وأظل على استعداد للتضحية والإخلاص والوفاء والعطاء.
***

اترك رداً