ليس آخراً
قول!
غسان كامل ونوس
هل يكفي ما تبقى من وقت لقول الكلام المباح؟! وإلى أي حدٍّ يتاح ذلك؟! ومتى، إذن، يقال الكلام غير المباح؟! وإلى من يوجَّه؟! وما الفائدة؟! وهل سيُسمح به؟! لكن.. من الذي يسمح أو يمنع؟! ومن الذي يحدّد المباح من الكلام أو غير المباح؟! ومن أعطاه الحقّ بذلك؟! أم أن “عنتر لم يجد من يمنعه”؟!
أم.. لم يكن لديّ الدافع أو الحماسة أو القناعة أو الجرأة للقول؟!
وإذا كنت أتردد كثيراً في القول، حتى إذا ما كنت وحيداً، وأخشى أحياناً أن أفكّر؛ ناهيك عن أن أقرر؛ فهل يحقّ لي التساؤل أو اللوم أو الشكّ أو الاتهام؟! وهل أستحقّ فرصة أن أقول، أو أن يُستمَع إليّ، أو يُنتظَر مني القول؛ ناهيك عن الفعل، حتى المباح منه، قبل التساؤل عمن يحقّ له تقرير ذلك أو تحديده أو تقويمه؟!
وليس السؤال عن المستمعين، عددهم في هذا الحيّز أو ذاك، ونسبتهم في الناس، ومستواهم.. بمسوّغ للسكوت، ولا الانكفاء بذي معنى، أو جدوى؛ لأن هناك من يفكّر، لا شكّ في ذلك، وهناك أو هنا من يتمنى أن يستمع، وليس منظوراً أو مشهوداً بالضرورة، ولا قريباً؛ فلم يعد كبير صدى للبعد والقرب، بعد القدرات المحمومة للاتصال والتواصل، والرغبات المتجددة للمعرفة والتدخّل بنوايا شريرة وطيبة؛
سأفكّر بحسن نية؛ فلا بدّ أن هناك من سيكون مهتماً بهذا القول، وبحسن نيّة ربما، وينتظر مني أو من سواي ذلك، ولديه ما يقول، وقد يسارع للحديث أو السؤال، أو البوح؛ فهل أخيّب ظنه، وأتقاعس عن منحه متعة البوح ومنّة الاستماع؟! وهل هي منّة أم أمنية لي قبل أن تكون أعطية أو هبة؟!
ربما كان لديه ما يقارب ما لديّ، أو يشبهه، أو يغنيه؛ وفي ذلك خير، وفي غيابه خسران وشحّ ربما!
ليس هذا فقط؛ ولماذا لا تعترف، أو لا تفكّر بصوت عال أو خفيض، أو لا تعلن؟! أليس في الكلام متعة؟! أليس في القول حضور أو اختبار أو ثقة تحتاج إليها؟! أليس في التصريح راحة، وفي الاستماع إلى النفس مسؤولية؟! أليس في ترداد الأفكار المخفيّة والأحاسيس المكتومة لذة تقارب تحقّقَ الغاية منها، أو بعضها، أو قد تبزّها؟!
فلا يجوز التهاون في هذا الأمر أو الاستسلام للعجز والقنوط والتشاؤم، ولا التغافل، ولا التعنت؛ ولا يصحّ السؤال عن الوقت المتبقي، والفرص التي قد تتاح، والمستمعين غير اللاهين أو غير المنشغلين بأشياء أخرى، وأقوال أخرى وأفكار وأحداث، تراها غير مناسبة أو غير جديرة، وقد تكون كذلك، أو لا تكون، فتسهم في تفنيدها أو تأكيدها، كما قد يسهم في كشف آرائك وأفكارك من لا تتوقع، ولا تنتظر؛ ينبغي، إذن، أن يكون السؤال الدائم: هل لديّ ما أقول؟! بصرف النظر عن المتاح والمباح، الممنوع والمسموح به؛ هل ما لديّ يستحقّ؟! وهل ينبع من داخلي ويعبر عن مشاعري وهواجسي ووساوسي وهمومي وآمالي، وبالتالي يعني أحوال آخرين ومصائرهم؟! أم أنني أردّد ما يقال في مهرجان القول المسفوح بلا وعي أو همّ أو حساب أو إيمان، وما يُستعرض من شعارات ومصطلحات عبر القوّالين والمدّاحين والنوّاحين، والمروّجين المسوِّقين المعلِنين؛ ولست سوى عنصر نكرة في جوقة مسحورة أو مأمورة أو مأجورة؟!
وهل أحتاج إلى مستمع أو مفكّر أو قادر أو مُواسٍ أو مُقرِّعٍ أو عاتب أو ساخر.. لأقول أو أعيش، أو أنتهي بلا خزي أو خذلان؟!
هل ينتظر الوقت والظرف والمناسبة و.. العمر؟! أم أنتظر أكثر؟! أم أتحدَث إلى لا أحد، أو إلى أيّ كان، بما أحسّ وما يقلقني، وما آمل، وما أسعى إليه بلا تردّد، ولا يأس، ولا خوف؛ ولا بأس في من يقول، وفي ما يقولون؛ فـ”الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ”!!
***