ليس آخراً
واقعية!
غسان كامل ونوس
لماذا نبالغ في تصوراتنا حتى نصدم بالوقائع؟! لماذا نعيش في أوهامنا حتى نخيب بما نلقى؟! لماذا نبالغ في الكلام، ونداري بذلك الحقائق، أو نوارب أو ننافق حتى على أنفسنا؟!
والأنكى من كل ذلك، أننا نستمر في الأوهام حتى بعد أن تنجلي الأمور، ونستمر في التوصيف الذي يناسبنا، رغم أن ما يجري لا يجوز لعاقل أن ينكره، أو يقفز فوقه، ولا لمقامر أن يتجاهله!!
منا من يقول بعد كل ما حدث: ليس سورياً من يقتل بأشنع الطرق، ليس سورياً من يخطف، ليس سورياً من يخرّب أو يسرق أو ينتقم من أبناء الوطن، أو يتعامل مع الأعداء، ويستدعيهم خائناً أو جباناً أو ذليلاً مهزوماً!
ليس سورياً من يهرّب السلاح، أو يسمح بتهريبه، أو يزرع العبوات أو يفخخ أو يغتال!!
نعم.. لقد ظهر على ساحة الإجرام والتخريب الممنهج من هم غير سوريين، عرب وأجانب.. وازداد عددهم في الفترة الأخيرة؛ لكن هذا لا يخفي حقيقة أن من قام بالأفعال المنكرة سوريون!!
ويمكننا الآن أن نسأل أيضاً وأيضاً: أليس مقتنصو الفرص، الصائدون في المياه العكرة، اللاعبون في الوقت الضائع.. سوريين؟! أليس تجار الأزمات سوريين، أليس قاطعو خطوط النفط، والكهرباء، ومستغلو الوقود والغاز والخبز… سوريين؟!
لقد عشنا في وهم، وتحرّكنا في عتم، وعالجنا بعقم.. بذلنا جهداً كبيراً لإخفاء أمراضنا الاجتماعية والنفسية، وأهدرنا جهداً أكبر لتغطية ارتكاباتنا، وتسويغ انتهاكاتنا، وغضّ النظر عن التطاول والتمادي والتجاوز..
ولو صرفنا هذا الجهد للاعتراف بالواقع، ومعالجة الثغرات، ومحاسبة المستغِلين، لكانت الأمور أفضل بما لا يقاس، ولكانت حصانتنا أقوى، ولكانت قدرتنا على امتصاص الهزات المتوقعة والصدمات المفاجئة أكبر.
نعم.. العدوان واسع، والمعتدون كثر، والنوايا فاجرة، والأساليب متعددة ومتجددة و”ذكية”، والأدوات عديدة ومحضّرة بـ “وعي”، والسهام مسمومة وموجّهة بإتقان، والكثير من الحوامل والراجمين سوري، أما الضحايا فجميعهم سوريون، والفواقد في الممتلكات العامة والخاصة هي من رصيد السوريين وحدهم، والكسور والتصدعات والتشوهات أصابت وتصيب البنيان السوري والمتن السوري والملامح السورية، وسيتحمل أعباء تعويضها وترميمها وإصلاحها السوريون وحدهم أبناء وأحفاداً!
ليست سورية فسحة في السماء؛ بل بقعة في الأرض، عريقة في التاريخ، مستمرّة في الحياة منذ قرون وقرون، رغم صروف الدهر، وتبدّل الفصول، وظروف البؤس والشحّ والحصار والنكران، وغزوات الطامعين فيها، ووسواس الحاقدين عليها الناخرين قاعها منّا وفينا..
لسنا ملائكة؛ لم نكن كذلك، ولن نكون، ولا نريد أن نكون، وفينا الشياطين والفجار وناكرو الجميل وحقوق الجار الأول، والحانثون بالوعود والعهود، والمدّعون والمنافقون، والفاسدون والمفسدون، وفي كل الشرائح والمواقع والمستويات، بنسب وهمم وممارسات ليست قليلة.
هذا الاعتراف مهم رغم ما ينطوي عليه من المرارة والألم والخيبات، وهذه الواقعية في النظر والتبصّر والفهم ضرورية؛ كما أن من المهمّ والضروري رؤية أن بيننا الواعين النبلاء المخلصين الأوفياء المضحّين الصابرين، المحافظين على الحقوق، الساعين إلى الحقّ والخير والعدل والصلاح بما يستطيعون، وفي مختلف الأماكن والمسؤوليات بنسب وهمم وحماسات أكبر؛ لولا ذلك ما صمد البلد، وما استمرّ في المواجهة الأصعب في الظروف الأعقد مع المعاناة الأقسى..
الأهمّ أن نتجاوز المحنة والغصّة والجرح، ونتخلّص من الوهم، والضحك على النفس، واللعب على الألفاظ والمحسنات والأوصاف، لتجميل الصورة القاتمة، وتغليف العناصر المتهالكة، وتغطية العورات الطبيعية والمستجدّة؛ الأهمّ أن نقول الحقائق، وندعو الأشياء بمسمياتها، ونتصرّف وفق مقتضيات المصلحة العليا للوطن أرضاً وشعباً ومقدرات ومصيراً؛ ولا بأس؛ بل من الضروري إبراز الإيجابيات التي تحصل، وتقدير الجدّية في العمل على تعزيز المنعة وزيادة الحصانة، واحترام التضحيات التي تقدّم، وإكبار الصمود والصبر والبذل والعطاء بلا حسبان، من أجل قدسية الأرض وسلامة الكيان وكرامة الإنسان..
***
الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ليس آخراً- الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: 2012-12-22
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy