ليس آخراً
هذا الملف:
يوسف المحمود
توازن وانفتاح وإبداع
غسان كامل ونوس
“لا بدّ أن أقبل الملاحظات السلبية، حتى أقبل الملاحظات الإيجابية”؛ علّق الأديب يوسف المحمود على بداية حديثي حول روايته المميزة “مفترق المطر” ذات لقاء ثقافي نقدي منذ نحو عقدين من الزمن؛ هذا التوازن النفسي والفكري لا يقف عند حدود، للجسد قدرات قد تهن؛ إذ غافله حيناً من الفجر؛ لكن التوازن الداخلي يواصل بثّ مضادات الضعف والقنوط، من أجل الحياة التي تعاش بأقلّ قدر من المتطلبات، وأغنى رصيد من تفهّم وتصالح مع الذات والبيئة والإمكانيات الداخلية والخارجية، على أمل أن يعود يوسف المحمود إلى قرائه ومحبيه، بقلمه الحاني حتى حين يخز من في صدره إبر، ونفثاتِه الساخنة المبرِّدة، وصفائه الذهني، وانفتاحه الإنساني، وبراءته التي تمتح من طبيعة وثقافة، وتمنح ملامحَه البسمة حتى في عزّ الألم، والرضا وهو يتعذّب من جراح غائرة ومظالم نافرة؛ عسى أن يدفع بمخطوطاته العشر أو أكثر قليلاً إلى النشر؛ تلك التي يبالغ في الحرص عليها حدّ عدم السماح لأحد قريباً كان أو أديباً بالاقتراب منها، خوف أن يكشف أسرار المغارة –ربما- تلك التي يعود إليها مبدعها بين وقت وآخر للمراجعة والتدقيق باهتمام جدّي، وحذرِ من يحترم سمعته ومتابعيه على مدى عقود، وقلقِ الإصدار الأول؛ هذا العمل/الهمّ الذي يكاد لا ينتهي، كما لو كان المحمود يشذّب في السفح شجيرات فتية، أو يخلّص المزروعات الغضة مما تطفّل، أو ينقّي حنطة المخزون مما خالطها من زيوان وسواه.. تلك الشوائب التي استغلّت رواء وخصوبة ودماثة وطيبة وسماحة..
فيغالب وجع السّملِ والتقصيف والإبعاد، أو يرجئه لقلق أو زهد أو شرود.. ولا تستطيع إلا أن تقارن هذا الجهد وهذا الاهتمام رغم امتداد التجربة وتجذّرها، وتواصُلِ الكتابة ومواقعاتها اليومية، بمن يسارع إلى رمي نتاجه إلى الدوريات والكتب، ولما يبلغ بعد، وبلا تمحيص أو تصحيح لغوي أو طباعي حتّى!!
وقد يحدث، وحدث بالفعل، أن كنت تقرأ لكاتب من بعيد، وتتخيّل له شكلاً وملامح وأسلوباً في الكلام.. بتعارض بين الواقع والخيال، أو اختلاف يصغر أو يكبر؛ وليس في هذا انتقاص أو إعانة؛ لكنه مثير ومدعاة للبحث والتساؤل؛ أما مع يوسف المحمود فتكمن المفاجأة في هذا القدر من الانسجام بين الرؤى والأفكار والأداء الطبيعي الهادئ البعيد عن المظاهر والتزيين، وبين كتاباته المتنوعة في الرواية والقصة، كما في الزوايا الصحفية التي اشتهرت، وانشغل بها ربما عن نشرها كتابات أخرى؛ كأنما يُسيل أصابعه ويذيب بعضاً مما بدا منه وما توارى، ويهرق قدراً من عرقه وأنفاسه، ويرسم بعضاً من ملامحه: انسيال الشآبيب، وغرغرة الجداول، وامتلاء العجين المخمّر، ومذاق الشراب المعتّق، ورائحة “العيتون”، ونكهة الزبيب، وشهيّة خبز التنّور المسروق من فرجة بين مَطَرَيْن..
وفي ذلك، ووراءه، وأصداؤه.. أشياء من التواشج والتعالق والتمثّل والمقاربة والاندغام والتماهي في سبل الحياة وعناصرها وكائناتها؛ بل كنهها وتساؤلاتها ومغامراتها رغم ما يظهر من قرب وما يبعد من فهم، وما يسترسل من وصف وحوار ونجوى وتفاصيل مادية ونفسية، وأمانٍ تشرق، وأحداث تُصادِف أو تُدبَّر!
ولا شكّ في أنّ هناك شيئاً آخر أو أشياء أعمق من أن تطال إلا بالملكات النشطة وذؤابات الاستشعار الحاذقة والوعي المستبطن، ناهيك بالموهبة والذكاء والفطرة المتحفزة للملاحظة والتقرب والاغتناء. ولعله بعض من العرفان، يلحّ على الوجدان.. أنّ فيما كتبه الأديب يوسف المحمود، وتجرّعناه قبل أن نقرأه لديه، وقرأناه قبل أن نلقاه، وتشرّبناه قبل أن نتعرّف إلى صاحبه.. مع ما كانه المحمود/الإنسان في الواقع بعد ما سمعنا منه وعنه، ولا سيما من رفيقة دربه “أم سلمان”.. ربما توسّلناه، من دون أن ندري، ترويحاً عن الغمّ، وترفعاً عن الشعور بالنقص تجاه المدينة والواصلين إليها وفيها، واعتزازاً بالقيمة التي يستحقّها ذاك الموئل البعيد الغائر اندغاماً لا انكفاء، الناهض تطلعاً لا تعالياً، المرتجي رحمة عليّة، ورأفة قصيّة، المُستسقَى بماء السماء إن شحّ أو أفاض، المُستدفَأ بالحنين والأنين، المتصبّر على الحاجات والأحلام والمواسم، المترقّب مزاج المواسم وتوالي الفصول، وكرّ السنين!
ويوسف المحمود.. رغم ما يبدو عليه من رزانة وثقة، واقتصاد في الكلام والاهتمام، ليس قارّاً ولا هيّناً، وليس في هدوئه استكانة، ولا في سلامه انصياع؛ بل صدق مع النفس والكائنات، وتراضٍ مع الحياة؛ ففي الجريان السلس تصفو السلافات، وفي الرقراق لألأة وإشعاع، وفي العمق جيشان وانتثار..
تلك أفكار الريفي تتوزّع الطبيعة وتتنزّعها، وتلك جمراته تتبرّد، أو ثلوجه تتدفأ بنسيم عنيد أو أليف، بنزيز عصيّ أو أزيز غامض، بثغاء قريب، أو خوار بعيد.
وكما يتدبّر الريفي مشاعره بأوقات مديدة، وأحاسيس متداخلة، ورغبات متشردة، وكائنات تشيل عنه، ويستأنس بها.. يتمثّل المبدع يوسف المحمود تلك المشاعر من الوعورة في مختلف الذرا والسفوح والوديان، وتلك الأصداء المترجّعة في الروح والخلجات، يلملمها من على الدروب المتعرّجة المسيّجة بجلافة الحجارة، وبنزق النباتات الشوكية، وبنزق الشجر المترامي.. أو يهدهدها طالعة من بين الأركان التي كانت تعتم في عزّ الظهيرة، وتحنو في شطحات البرد.. ويبادرها مسترسلة عبر موّال شاكٍ، أو ترنيمة معاتِبَة، أو أهزوجة هنيّة!!
لم يهتمّ بالأضواء التي يستحقّ، ولا يجري وراء تكريم لم ينل منه إلا القليل، ولا يطالب بإعادة طباعة كتبه التي نفدت، وهذا من حقّه وحقّنا وواجبنا نحوه.. هو الزاهد بالشهرة، الرائي الواثق الراضي بما قلّ ضجيجه، وفاض رحيقه، المتفرّد في عالمه الذي يختصر عوالم، وهيئته التي تكتنز هيئات، وطينته التي تحترق فتأتلق.
هناك.. في بيته الريفي المعلّق في جبين المنحدر، تقودك الشرفة أمتاراً، ثم تتوقف خطاك تاركة لعينيك متعة التطويف فوق الوادي المتطاول، والتحديق في السفوح القريبة والبيوت المعلقة، ومغرية خيالك للتحليق في أحياز مشرعة في رحاب الدنى ما تزال، وما يزال يوسف المحمود يتملاها في قريته “كفر شاغر” أو منزله في العاصمة دمشق، ينتظر أن يبلّ، ويبلّ الوطن المجروح، ليعود إلى الطواف مجدداً منها إليها.
***
غسان كامل ونوس
الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ليس آخراً- الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: 2012-12-29
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy