الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي - ليس آخراً
تاريخ النشر: 2013-04-06
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy

لا تموت الحرة..

تعرف المحاورة ولا تشتكي، وهي مادة الكلام بل روحه، ولا تتكلم؛ ولو تكلمتْ لنفثتْ من عزّة الروح عن الروم الذين هم خلف الظَّهر وجوار القلب -ما يزالون- ويحاصرون الخواصر بالوخز، ويُطبِقون على الأنفاس..
والعربية أوسع من لسان، وأدقّ من سنان، وأشفّ من بوح، وأعذب من طيف، وأقرب من آه، وأمتن موقفاً وعهداً وكياناً ومآلاً..
والعربية أقدر على اللعب والجدّ، وأمضى من حدٍّ وحدّ؛
لكنها تئنّ من الظلم الأشدّ مضاضة من وقع الحسام المهندّ!!
لكن؛ ولأنّه –ما يزال- في باحات الديار من يدعو بناره، ويصغي إلى نهدة سابع جار، وما زال هناك من يجزع على ابن طريف؛ ولأنّ في أطراف السُّمينة وأركان المَقيل أناساً عزيزٌ عليهم ما تلاقي، وهناك من يريد للهطل أن ينتظم البلاد والعباد، فقد رضيتْ أن تحمل همّ الناطقين بها، العاملين عليها، والمؤلّفة قلوبهم، الطاعنين العابثين الجاحدين، الطاعمين الكاسين!!
لكنّها العربية؛ ولأنّها الحرّة، العربية لا تموت ولا تأكل بثدييها!!
ولا شكّ في أنّ في تجاهل اللغة استرخاصاً لها وإهانة لأصحابها، وفي الإهمال استهانة، وفي التجنّب تغافلاً وغشاً للذات؛ إذ ستقول اللغة لمن يفعل ذلك عند الاستحقاق: لستَ منا!!
فكم من فكرة قيّمة بُخستْ لضعفٍ في التعبير، وكم من قامة ناهضة تقزّمتْ لاعوجاج في اللسان، وكم من هيبة تهدّلتْ لتعثّر لغوي، وتكسُّر؟!
ولا يمكن أن تكون هذه أهدافاً معلنة أو مخفيّة لهذا الكائن المتمثّل اللغةَ العربية!
وليس ذنبَ العربية أن نذوّقَ في غير وقته، ولا أن نقعّرَ في غير مناسبته، وأن نبالغ في أمر فيَضيع جوهره، ولا أن نقصّر في ما لا نودّه، أو نسطّح أو نثرثر أو نبتذل؛ تلك صفاتنا تُرَدُّ إلينا، ومحتوانا يشهد علينا، وغاياتنا تدلّ، وأداؤنا وانفعالاتنا!
وليس ذنبَ العربية وليس دورَها أن تُرفعَ ذؤاباتُها على رؤوس التماثيل والأنصاب، أو تُشَرشَرَ سيالاتُها العصبية على مدارج القصور وأردان الممدوحين بلا استحقاق، أو تُذوَّبَ أكبادُها على مدافن المهزومين وعتبات المارقين، أو يُربَّتَ بجدائلها على أكتاف المتخاذلين..
واللغة سلاح وقضية؛ سلاح يدافع عن قضية، وقضية تحتاج إلى سلاح؛ سلاح في المواجهة الحضارية ينبو إذا ما كَبَوْنا، ويطيب إذا ما هَمَمْنا وعزمْنا، وهو عنصر رئيس في الحروب الإعلامية، التي كانت وما تزال أساسية في التحضير للمواجهة، والتأثير على الخصم واستثمار ثغراته..
ولكنها قد تصبح سلاحاً يرمي إلى الخلف، يصيب حامله، إذا ما كانت سهامه صدئة، ومقذوفاته مقولات عفنة جوفاء من أزمنة جاهلية، وإذا ما كان فيه مبالغة وكذب وأوهام، تصيب النفس، وتخذل النظّارة!
وهي قضية أيضاً؛ لأنها جبهة يمكن أن نُستَهدَف منها، ويمكن أن يُنال من الجبهات الأخرى بالنفاذ منها وإفقارها وترهيلها..
وليست العربية إبدالاً أو قلباً أو إضافات.. وليست أحرفاً ومفردات وصياغات.. وليست إعراباً مفصلاً أو مختزلاً؛ وليست رغبة أو نزوة أو إزاراً، ووشاحاً يمكن أن يتحول إلى كفن؛
إنها وعي وتَمَثُّلٌ واكتناز، إنها تناغم الفكرة مع لبوسها، وانسجام المقول مع تشكيلاته وتمظهراته..
فكم كشفت اللغة العربية عن ضآلة بفضفاضها، وعن نبالة بتلميحها، وعن شغف بلهفتها، وعن مرارة بوخزاتها، وعن ترفّع باقتصادها، وعن طاقة بكثافتها، وعن امتدادات بوقفاتها.. وهي رصيد يتواصل ويتنامى لدى من يدعمه ويستثمره، ويُفقِر من يقتصر عليه، ويرميه بلا حسبان..
والعربية ليست مناسبة سنوية، ولا موضة موسمية، ولا طقساً عابراً؛ ومن ميّزاتها أنها لا تحفظ أسرار الناطق بها؛ إذ سرعان ما تكشف حصانته ورصانته، أو هشاشته وضحالته..
وإذا كانت اللغة تمثل الشخصية والكيان، وتختزن التاريخ وأصداءه، والحاضر وجنباته؛ فإن الطعن فيها يصيب من الكائن مقتلاً، وتعكيرها يشوّش المشهد، وتدميرها لا يترك للكائن من قائمة، وليس أسهل من تنفيذ ذلك ببثّ مفردات التيئيس والتبخيس والوهن والانهزام..
إن قيمة اللغة لا تقاس بعدد الناطقين بها فحسب؛ بل بما ينجزون ويبدعون، ويُسجَّل لهم، ويُحكى عنهم.
وليس بمقدور اللغة أن تزهو في مفصل خصام أو نكران، ولا أن تتلألأ في فصل الموات، ولا أن تقتم وتعتم مع فيض الوجد، ووقدِ الروح..
وتهيمن مفردات الخيبة والانكسار والتبعية والصغار في زمن الهزائم، وتتضاعف كلمات الفرح والغبطة والسعادة والتحفيز وحب الحياة والإقدام في أوقات الانتصارات..
ولا يبتعد استهداف اللغة العربية، رمز وحدة العرب، وجامعتهم الرئيس، عن استهداف عناصر الثقافة العربية وبنيات الفكر العربي؛ هذا الذي لم يتوقف منذ قرون. ولعلّ أمثلته الفاضحة ما شهدناه من اجتياح للمتاحف المكتنزة حضارة وتاريخاً، والمواقع الأثرية الزاخرة بكل ما يؤكّد عراقة هذه الأمة.. ابتداء من العراق، واستطراداً في سورية، التي تشهد نهباً منظماً للشواهد التاريخية، واقتناصاً للعقول والخبرات والكفاءات العربية.. والقصاص منها، حتى وهي تماثيل حجرية، وهي سياسة مستمرة منذ عشرات السنين؛ كما يندرج في ذلك التدمير المنظم لكل عناصر التقدم والتطور في مختلف ميادين الحياة.. تلك هي سياسة التجهيل والإظلام والتسفيه.. التي لا تستثني قطراً عربياً، ولا موقعاً ذا ريادة ومبادرة وإقدام..
ولا بأس؛ بل لا بد من الإشارة إلى أن العربية، على الرغم من هذه المكانة وهذه القيمة؛ فهي لا تكفي وحدها؛ لأن للمواجهة لغات أخرى، وللخصوم وسائل أخرى، لا بدّ من تعرّفها وإجادتها، لنعرف ما يقدمون وما يخططون، ولإيصال ما نريد إلى الآخرين، لكنْ من دون أن ننسى أنّ بإمكان أصحاب اللغة أن يفرضوها على مستويات العالم، لا لكثرتهم؛ بل لإنجازاتهم وريادتهم ومواقعهم ومواقفهم؛ إنهم يجبرون الآخرين على الاعتراف بهم وبمرجعيتهم، إذا ما برعوا وأنتجوا وقاوموا..
إن للعربية علينا حقَّ إخصابها بطَلْعِ المعرفة المتجدّدة، وعرائس المعارف المستجدّة، ولها علينا واجب الاهتمام، ومسح الغبار عن لآلئها، وكشف النّقاب عن كنوزها التي لا تغيّبها السنون، ولا تمجّها الأسماع، ولا تتعثّر بها الأفواه، ولا بأس بتحريض طاقاتها لا تفجيرها، وتجديد انبعاث إشعاعاتها لا تبديدها..
إن حماية اللغة وتحصينها وإغناءها ليست فرض كفاية، وإن كانت المسؤولية الأكبر تقع على المؤسسات المعنية باللغة تأليفاً وإبداعاً، كوزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب وسواهما، ومن واجبها أن تتعاون لتُكامِل جهودها ومشروعاتها ورؤاها، فتكون المحصلة أفضل، والنتائج أجدى؛ فهل هذا ما يجري حقاً وما يُنجزُ فعلاً في مختلف الأوقات والمواقع، لا في مناسبات حولية وملتقيات احتفالية؟!
فهيّا إلى كلمة سواء، وقولٍ حسن، وفعلٍ خيّر، فترضى الذات، وتصفو النفوس، وتُشذّب المسارات، وتسمو الغاية، ويأمن المصير.
***
غسان كامل ونوس

اترك رداً