يشير شقّ في عنصر كان سليماً إلى خلل ما؛ لا شكّ في ذلك، ولا شكّ في أنّ هذا مثير للقلق، ويستدعي البحث فيه؛ فقد يكون سطحيّاً عارضاً، أو عميقاً مزمناً..
وللوقوف على الحقيقة في ذلك، لا بدّ من مراقبته أولاً فترة من الوقت كافية، ولا تسمح باستفحاله؛ فقد يتوقّف عند حدود؛ أما إذا ما ازدادت أبعاده، فهذا يعني أنّ الأمر ليس بسيطاً، وأنّ هناك أسباباً جدّية ينبغي تقرّيها، والتّوصّل إلى تحديدها، ومن ثمّ تأمين طرق علاجها الجادّة والمناسبة. وكثيراً ما يُلاحَظُ في بعض عناصر الأبنية مثل هذه الشقوق، وقد تمّ طمسها أو دهنها بلا كبير اهتمام أو انتظام، ما يشير إلى العيب أكثر ممّا يخفيه، ونلاحظ أيضاً –وهذا هو الأهمّ- أن الشقّ تجدّد، وانتقل إلى المادّة التي تغطّيه، أو صار شقوقاً تتمدّد في أكثر من اتّجاه، وهذا يحذّر من أنّ المسألة أكبر من حدث عابر، وأعمق من قشرة خارجية!
ومن المفيد التذكّر أنّ مثل هذه الشقوق يغلب حدوثه في العناصر ذات التكوين المختلط: البيتون المسلح، البيتون المغموس، البيتون العادي، التربة.. وهذا ينجم عن خلل في التجانس له أسبابه أيضاً: عدم مطابقة مواصفات المواد المستخدمة مع ما هو مطلوب، عدم دقة النسب بين الموادّ أو المكوّنات الصلبة والسائلة، الشروط المطلوبة للالتصاق أو الارتباط للعمل معاً غير متوافرة، تَغَيُّرُ الظروف التي تعمل الكتلة في ظلّها. وقد يتبدّل الكثير في بيئات العمل مع مرور الزمن: العوامل والعناصر والمناخات، القوى المؤثّرة.. وقد يحدث ما هو طارئ بأسباب خارجيّة أو داخليّة.. ويمكن أن تنجم هذه العيوب عن مشكلة في أحد المكوّنات أو أكثر، يدلّ على ذلك شكل العطب وجهة انتشاره؛ فقد يكون مركزيّاً أو ممتدّاً أو متنقّلاً.. ومن المؤكّد في أنّ مثل هذا الخلل لن يتعافى من نفسه، إلّا في حدود دنيا، وفي حالات محدّدة؛ فقد يؤدّي انتفاخ أو تمدّد محدود إلى إغلاق ثقوب، وتلاشي شقوق؛ لكنّه قد يشكّل خطراً في مكان آخر، أو بشكل آخر، إذا لم يكن قد تمّ احتساب ذلك بعد توقّعه ودراسته؛ وحتّى لو زال السبب المؤثّر ظرفيّاً، فسيترك آثاراً، تختلف درجة ضررها حسب مدّة التأثير وشدّة القوى، ومستوى المقاومة.
ليس من عنصر ذي بناء منسجم بنفسه، حتّى لو تشكّل من مادة واحدة؛ لأنّ أيّ مادّة تتكوّن من ذرّات، والذرّات تتألّف من نواة والكترونات ومدارات وعناصر أخرى. وحدوث أيّ خلل، حتّى في الكترون واحد، نقصاً أو تغيّراً في مسار، سيؤدي إلى تغيّر في خواص الذرّة، ومن ثمّ العنصر؛ لكنْ قد تبقى آثار مثل هذا الأمر غير منظورة..
قد يفيد هذا المثال الهندسي العملي لدى النظر إلى المجتمع، وسيرورته والتغيّرات فيه، ولا يدخل شذوذ فرد أو بضعة أفراد في مثل هذا التّوصيف، ولا يمكن أن يطلق على تحلّل بعضهم أو سقوطه أو افتراقه تشقّقاً أو انشقاقاً؛ لأنّ هذا الأمر يُطلَق على كتلةٍ ذات قوام وكثافة وحيّز؛ وقد يكون التقشّر أكثر قرباً من التوصيف المناسب. لكنّ الاختلاف في التعبير عن المسألة، لا يعني إغفالها أو تجاهل أسبابها؛ فقد تتفاقم الحالة، ويتكاثر الخارجون على الكتلة الأمّ، فيحدث انفراغ، يزداد تأثيره، وتتضاعف تبعاته، وتصبح معالجته أصعب، ويغدو التعامل معه أعقد.
وربما كان في المثال أيضاً ما يعبّر عن معنى هام؛ فالقوى التي تؤثّر تختلف بين حمولات ميتة، يكون تعيينها ممكناً، والتغيّر فيها معدوماً أو محدوداً، وقوى حيّة يحتاج تقديرها إلى معطيات وخبرة وعوامل أمان أكبر؛ لأنّ هناك احتمالات وتكهّنات، وتغيّرات في القيمة، والاتّجاه، ومدّة التّأثير، وزمن التّواتر؛ ومنها الرّياح والآليات…
فكم سيكون أمر المعالجة دقيقاً في المجتمع، حين يُتطلَّبُ التّعامل مع كائنات حيّة تؤثّر وتتأثّر، وتتحوّل وتتجدّد، وتقتنع أو تعترض، أو تسكت على مضض، تطمح، وتطمع، تجتمع وتتفرّق، تعترف وتشكر، أو تُنكر وتتنكّر؟! وهل ينفع التّرميم المادّي في رأب صدوع عميقة، وهل تفيد اللّقاءات العابرة، والأقوال المأثورة، والنوايا الطيّبة في إصلاح تصدّعات غير منظورة، والتخلّص من هشاشة وتعب وتهتّك؟! وما هي عوامل الأمان التي نحتاج إليها لزيادة اللّحمة والحصانة والمنعة في كيان عزيز، ما يزال يحتفظ بالكثير منها، وهي ما أبقتْه قائماً قادراً على المواجهة والصمود والارتقاء من جديد؟!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: مجلة المهندس العربي ع176
تاريخ النشر: 2013-01-01