وللشر مثاله.. أيضاً!
يتجاوز أمر الفجور أحياناً معنى أن يكون التقويم متعلقاً بما حدث، وتبعاتِه المباشرة المنظورة أو المستورة؛ إذ إن الإصرار على تثبيته وتكريسه والدفاع عنه، وتكراره، رغم عدم مشروعيّته، وعدم منطقيّته، وقابليّته الذاتيّة والموضوعيّة للحياة، يجعل منه بؤرة مُنْتِنة أو مُحرِقة، أو عرضة لأن تكون كذلك في كلّ وقت، وتجعل من المحيط والبيئة أمكنة للتوتّر والفوضى، أو يُسعى إلى ذلك باطّراد؛ وبالتالي تتوالى المشاكسات أو الحركات الاستفزازية، أو الضغوط المتعدّدة الأشكال والمجالات لإرغام الجوار أو المتابعين على القبول والسكوت والقنوط، ويجري البحث عن مريدين أو أزلام أو تبّع أو مدجّنين، أو يتمّ تحضيرهم أو استمالتهم أو إغواؤهم أو توريطهم بما لا يستطيعون منه فكّاكاً، أو لا يفكّرون بذلك.
ويمكن في الطريق إلى ذلك، أو في إطاره؛ بل يُتوقّع أن يصبح الإنجاز الشرّير مثالاً أو رمزاً محرّضاً لتكوينات مماثلة، فتغدو الخليّة الخبيثة خلايا، والورم أوراماً في جسد الوطن أو الأمة؛ بل البشرية أيضاً.. فتزداد ساحة المواجهة، وتتكاثر السهام التي عليك صدّها، والجراثيم الفتاكة التي قد يلزم أن تبحث عن أصلها وخصائصها وتأثيراتها، كي تجد العلاج الشافي أو المُحصِّن على أقلّ تقدير؛ فتخسر الكثير من الجهد والطاقة والوقت لإثبات حقّك البيّن وباطلهم الفاقع، ويفقد الكثير من القيم والمفاهيم معناه، وقد تسود أفكار ومصطلحات جديدة، أو يفرضها الواقع والسلوك، أو تُمرِئها الحاجة، وتُهيمِنها الوسائل والأدوات التي تتجدّد وتتطوّر وتتفنّن.
وفي التاريخ شواهد كثيرة، وفي العصر الراهن غير قليل منها؛
فلم يكن الكذب المكرّر حتى يصبح أمر تصديقه واقعاً، ذلك الذي ساس جنون هتلر، الأوّلَ، ولم تكن الادّعاءات المغلوطة للصهاينة بالحقّ التاريخي في فلسطين الأخيرة..
فالتضليل الذي تمارسه القوى العالمية في شؤون حقوق الإنسان، وحقّ الشعوب في الحريّة، والسيادة الاستقلال.. تفضحه الوقائع على الأرض، والسياسات والعلاقات والقرارات الدولية.. والغاية تحقيق مصالح هذه القوى القادرة التي لا تقف عند حدود، ولا تتردّد إزاء إفقار أو دمار، أو مجازر، أو إبادة صامتة: عقوبات وحصارات تطال الغذاء والدواء والخدمات والمتطلّبات الأشدّ حاجة، ولعلّ بعض المفارقات العصرية التي يمكن الحديث فيها، الآتي:
-أن تتحالف دول “عريقة بالديمقراطية” مع دول تُحكم وراثياً، وتتوزّع ثرواتها عائلات وشركات متواطئة، من أجل تغييرات (الفوضى الخلاقة) في دول أخرى شقيقة وعريقة لتحقيق التعددية والديمقراطية!
-أن تقود الدول إياها تحرّكات، وتدفع باتجاهها، وتموّل، وتسخّر الإعلام.. وسوى ذلك، من أجل شعارات الديمقراطية والتعدّدية.. وهي تعلم أنّ الغالبيّة ستؤول إلى أحزاب وتيّارات دينيّة أكثر تنظيماً وقدرة على التحشيد والتوجيه ووقف العملية الديمقراطية شكلاً وقيمة؛ لأنّ هذه الأطراف هي أبعد ما تكون عن مبادئ الديمقراطية ومفهومات التعدّدية؛ فمرجعياتها قدسية، ومآلاتها أخرويّة، ومشروعاتها أمميّة دينية لا وطنيّة أو قوميّة!
-أن تُستدعى القوى الغربيّة (الكافرة) في شرع بعض المُفتين جهاراً للتدخّل في بلد أمّ أو شقيق، لتدميرٍ أو تهجير أو تخريب.. ويُفتى بذلك، ويُنادى به من منابر ومحاريب..
-أن يُفتى بقتل كلّ من يكون مع الدولة بمؤسساتها وإداراتها ووزاراتها، حتّى تلك التي تقدّم خدمات للمواطنين.. وكلِّ من لا يخرج متمرّداً عاصياً، حتّى لو كان موظّفاً مدنيّاً أو عسكرياً، وحتّى رجل الدين، أو العالم المميّز.
– ومن المفارقات العصريّة غير المستساغة، أن يقف رئيس مصر الإخواني (المخلوع) محمد مرسي في افتتاح قمة دول عدم الانحياز في طهران العام الماضي؛ وهي المنظّمة التي كان من مؤسسيها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو الذي خاض أشرس المواجهات مع الإخوان المسلمين، منذ أكثر من نصف قرن؛
فأيّ تناقض تاريخي وقيمي وإنساني هذا؟!
أما المثال الذي تمّ السعي إلى تكريسه شبيهاً لكيان صهيوني معوّم عدوانياً فوق المبادئ والقوانين.. فيتمثّل في ما تشهده الأحداث من تمدّد نفوذ إحدى الدويلات العربية التي تكاد لا تُرى على الخارطة، وسعيِها -بمساعدة الدول القادرة الغادرة- إلى أن تكون مؤثّرة في دول وشعوب مجاورة ومنتشرة، عن طريق المساومة والدفع والرّشى.. تلك التي وصلت إلى أهمّ لعبة رياضية، فحصلت على استضافة كأس العالم لكرة القدم!! رغم عدم مناسبة البيئة والمناخ، وعدم وجود نظّارة؛ فسكانها الأصليّون لا يكادون يملؤون الملعب البرازيلي الذي ستُفتتح فيه مباريات كأس العالم في العام 2014م. (بالمناسبة تم طرد ممثلها الرياضي من جميع المؤسسات الرياضية العالمية، لثبوت رشوته بعضَ ممثلي الدول في التصويت الشهير!).
لقد امتلكتْ بإعلامها المبرمج وفق الاستخبارات الغربية والبريطانية تحديداً فضاءَ الناس، واستغلّت توقَهم إلى قول ما يريدون، والاطلاع على ما قد لا يُتاح لهم سماعه أو رؤيته في مكان آخر، وقد يكون ذلك أفضل! وبأسلوب الإثارة والمواكبة استحوذت على المتابعة والاهتمام.
ففعلت فعلها في الشرذمة والتحريض والاستثارة في مواقع أخرى، وبلدان أخرى، فيما لا يَعرف مسؤولو هذه الدويلة حتّى النطق السليم للشعارات التي يروّجون، والمبادئ التي يدّعون؛ ناهيك عن فهمهم لمعناها، أو قناعتهم بها وبطلّابها..! أمّا ممارستها من قِبَلِهم، فإنّ ذلك من المستحيلات.. لافتراق الطبع، والتناقض المريع بين حالهم وجوداً وهيمنة ونفوذاً.. وبينها!
إنّ ذلك يشكّل نموذجاً شبيهاً بالكيان الصهيوني.. الذي يهيمن تضليلاً واعتداء وتهجيراً وترويعاً وتهديداً.. مع فوارق في مظاهر الغطرسة والقوّة التي ما تزال تحمل ملامح الماضي، فيهدّد بها ويستوحش، ويمارس عدوانات متواصلة، ويستخدم، إضافة إلى فجاجة القول والفعل، أساليب مراوغة وعناصر وحكاماً وكيانات.. منها تلك الدويلة التي تقوم على فوّهة غاز، أما أساليبها؛ بل الأساليب التي أعدّت لها، فحديثة تجتذب إليها حتّى المفكّرين والمثقّفين والثوار.. أو من كانوا كذلك، ويكفي وجودهم في لدنها، وتقبّلهم رشاها، والتحوّل والتنقّل برنينها، والتحدّث بحَمْدها، والتشكّل وفق أوامرها وشاراتها، لكي يسقطوا بلا رجعة..
إن ما تقوم به العصابات المسلّحة في سوريّة تخريباً للبنيان، وقتلاً شنيعاً وممارسات حاقدة للإنسان، لا يختلف عمّا فعلته العصابات الصهيونية في فلسطين، وما فعله جيش العدوان الصهيوني بالجنود الأسرى المصريين عام 1967م، وبالمدنيين العرب الفلسطينيين وسواهم.. وما يزال!
وهل يختلف حصار غزّة بمساعدة شقيقة عن حصار نبّل والزهراء في ريف حلب الشمالي، وسواهما من البلدات السوريّة التي وصل إليها الأشرار؟!
كما أنّ التشابه يتجسّد في افتعال المجازر واتّهام الآخرين بها، وصياغة الأضاليل، وإشاعة المصطلحات المموّهة؛ إنّه الكذب المكرور المدعّم بالصور المفبركة، والشواهد المحضّرة، والشهود الزور، محلياً ودولياً..
وما يزيد في غرابة ذلك، أنّ مثل هذه الأفعال العدوانيّة الفاجرة اللاإنسانية ما تزال تحدث في هذا القرن الحادي والعشرين، وما تزال تلقى التمويل المالي المفتوح، والمساندة الميدانية المعلنة بالسلاح والرجال، والإعلامية المفضوحة بمختلف الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، والسياسية والدبلوماسية في مختلف المحافل الدولية؛ بل لقد اُستخدِم التقدّم العلمي وإنجازاته، ولا سيما في مجالات الاتصالات والإعلام، لتكريس هذا الفجور وتلك الضلالات..
إنه لأمر مؤسٍ ومؤلم أن يكون للشرّ مثال يحتذى؛ بل أمثلة تُستنسخ وتتجدّد، بدل أن يتكاتَف من أجل صدّه ودحره الجميع!!
***
غسان كامل ونوس