..تأخرتُ في الاعتراف، رغم أنّك بكّرتَ في الحضور والعطاء، ولم يكن السادس من تشرين الأول منذ أربعين عاماً،
سوى العنوان الكبير للفعل المؤثّر والدور العظيم الذي تقوم به، منذ ما قبل ذلك بعقود، وما تزال تؤدّيه بلا تردّد ولا وجل أو خجل أو منّة.
بكّرتَ في الفروسيّة، وتحمّلْتَ المسؤوليّة، وتأصّلتْ لديك الوطنيّة، وتجذّرت الهمّة، وصعّدتْ في مساري النسغ التي قوّيتَها نحو القمّة، وتمثّلْتَ القيم النبيلة، والخصالَ الجليلة التي انتثرتْ في السُّموت كلّها.. بكّرتَ في التّسامي عن الصغائر، والتّعالي على الأعراض الموهنة، والحاجات الملحّة، والآلام المبرّحة، ومحاولات التثبيط والإعثار والإلهاء والإغواء التي لم يتأخّر الكثيرون في اقترافها سرّاً، وإعلانها جهراً، والتّآمر والتّقاوي لزيادة فعاليّتها، والتفنّن والتجديد في أشكالها وأدواتها.. لكنّهم تأخّروا في فهم الروابط الجامعة والخصائص المانعة للتحلّل والانفراط، وما زالوا يُغيرون ولا يملّون، وفي عجزهم يحارون ويندبون، وفي مكائدهم يتخبّطون..
بكّرتَ في الإقدام، وعينُك لا تنام، وثغرك البسّام، وتعلّلَ كثيرون يحبِطون ويعرقلون في انتظار الهزيمة ليشمتوا، ويصطادوا في البحيرات الآسنة، وينساقوا في المجاري المهجورة، فتخلّفوا عن الرّكب الفاتح، وتمرّغوا في الغبار والعار..
بكّرتَ في الفعل، وتأخرتُ في الجهر بالعرفان، ولا عذر لي إلا عزّة الإفصاح عن المشاعر التي منك اُستمدّتْ، وشدّة العواطف التي تحرج الدّفق وتكثّف التّوق، ولا مسوّغ لي سوى أنّ الإحساس لم يتأخّر، ولم يتعثّر البوح في التصعيد والانبثاق، فافتُضحتُ في هواي، وما خجلتُ؛ فأنا أستحقّ هذا الفوز، وأنت تستحقّ أكثر فأكثر، ولا تتطلّب ولا تُتعِب، ولا تنتظر اعترافاً ولاشكوراً؛
لم يكن في منحِكَ وما تَهَبُ ممالأة ولا مراءاة ولا ضجيج، والكِبَرُ من شيمكَ ولا تَكَبُّر، والالتزام ديدنُك ولا تَذَمُّر، والعقيدة طاقة لا تفتر ولا تنضب، والعروبة شساعة وقناعة، ولا تَعَصُّب، والوطنيّة اكتناز ومناعة، فلا تردّد أو تشرّد، والإنسانيّة ارتضاء واكتفاء واحتفاء، فلا تجبّر ولا تحجّر ولا تفاخر ولا تجاوز..
البوصلة لا تحيد؛ فالعدوّ هو العدوّ الواضح في عدوانه، الفاضح في انتهاكه للحدود والعهود والمبادئ، الكيان الصهيوني الغاصب للأرض، المعكّر للسماء، المدمّر للحياة نفساً ونماء، المشوّه للطبيعة حجراً وطيناً وماء.
البوصلة لا تحيد، وإن غيّر المعتدون القناع والوجهة والملامح، حتّى لو تكلّموا بلسان مفهوم، وأقاموا الطقوس المألوفة، وتحدّثوا بما أُنزل، ورتّلوا وتبتّلوا؛ إنّهم أشقياء بما سلكوا وتبنّوا، وبؤساء بما ابتغوا وبغوا، وأغبياء بما حسبوا، وجاحدون بما امتلكوا وبدّدوا، وغادرون بما أوكت أيديهم ونفخت أفواههم، وحاقدون بما اكتظّت مساماتهم، واحتقن كيدهم ونفثت فتحاتهم.. وإنّهم لفي خسران عظيم!!
لم يقدّروا إمكانيّاتك، ولم يستوعبوا مَلَكاتك، ولم يتقبّلوا حضورك الواثق، ولن يهنؤوا أو يَقَرّوا، فأنت/نحن لهم بالمرصاد، وأنت/نحن لهم الغضب والعطب، والقدر الموعود، والقوّة الْبِلا حدود.
بكّرتَ في التضحية، ولم تتوانَ حين دعا الداعي، ولن.. آن يدعو.
ولم تجفّ الساح، ولم تجدب البطاح، ولن تذبل الأقاح؛ فدمكم يرطّب، وجراحكم تستسقي، وعرقكم يُندي..
لم نكن نقدّر بأسكم؛ وإن كنّا واثقين نتلهّف، ففرحنا بالأنباء التي تلتْ ذلك البيان الأوّل عن العمليّات على طول جبهة الجولان؛ فالأهمّ اتّخاذ القرار وامتلاك المبادرة بالهجوم لاسترجاع الأرض ودحر المعتدين، والأهمّ القدرة على الاندفاع والمفاجأة والاختراق، والوصول إلى مواقع متقدّمة، والاستعداد لمواصلة الهجوم وتطويره؛ وها هي اعترافات من قادة الكيان الغاصب، تأخّرتْ، ولسنا في حاجة إليها؛ لكنّها قد تصل من في آذانهم وقر، وفي رؤاهم عماء؛ لأنّهم إليهم يستمعون وبأفكارهم يأتمرون؛ اعترافاتٌ تُظهر انهيار القادة العسكريين الكبار أيام تشرين الأول 1973، والتحضّر لاستخدام السلاح النووي ضدّ الجيش العربي السوري، بعد عودة يائسة من الجبهة السوريّة في اليوم الثاني لانطلاق القوّات العربية في حربها التحريرية؛ ولم نكن نتوقّع مستوى التنسيق والإعداد بين سوريّة ومصر؛ فغُبطنا لاتّساق أنباء العبور في الجولان واجتياز خط آلون الحصين، مع أخبار العبور العظيم لقناة السويس وخطّ بارليف العنيد باتجاه سيناء.. لكنْ هناك دائماً خائبون ومهزومون ومُعثِرون، وها هو الصحفيّ المخضرم هيكل يقول، لولا خيانتنا، لدخل السوريون إلى القدس!
وفي هذه الأيام ترفرف من جديد روح تشرين، وتترجّع أصداء انتصاراته، وتَلُوحُ ملامح راياته، في أكثر من جبهتيه، وأبعد من جانحيه؛ لعلّه النبض السعيد، والوعد والعهد والرجاء؛
على الرّغم من أنّه ما يزال عملاء وخونة يحاولون طعنك أيها الجيش العربي السوري الوطنيّ الجبار في ظهرانيك، وخواصرك، أنتَ المُولِي وجهَكَ صوب الجولان وفلسطين، ولم يُرجَّع الطّرفُ بعدُ عن أراض عربيّة أخرى ما تزال محتلّة؛ ولك فيها دم ما يزال طازجاً، ولصوتك صدى، وأكثر من شقيق ورفيق، وأكثر من غادر وزنديق!
وفي هذه الأيام تُثبتُ من جديد أنّك الأصيل النبيل في زمن الهجانة والخبث والنّكوص الفجائعي لكثيرين أجهزوا على ما تبقّى لديهم من حياء ودماء بتعاونهم الجهري مع العدوّ الحقيقي، ضدّ سورية وأبنائها الصابرين الواعين لما يدور من اجتماع على الباطل والفجور، المصرّين على الصمود والدّفاع عن الأرض التي تُستباح، والعرض الذي يُنتهك، والكرامة التي تُهان، ومصادر القوّة التي تُستَهدف كرمى لعيون الأعداء، وعربون استسلام وانهزام وتبعيّة، وهذا ما لا ترضاه غالبيّة الشعب السوري، فوقفتْ إلى جانب الجيش الوطنيّ العظيم والقوى المسلحة، معاً في الدّفاع والرّدع والبسالة والتضحية.. ولا تهاون ولا انهزام؛ بل خلاص وشيك، وانطلاق أكيد للتّرميم والبناء والتّحصين بإرادة وثقة ووطنيّة..