الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة البعث
تاريخ النشر: 2013-11-14
رابط النص الأصلي: 

لا بدّ لأيّ حريص على سوريّة، وحزب البعث العربي الاشتراكي القائد في الدّولة والمجتمع لعقود، أن يفكّر مليّاً –حتّى لو كان ذلك متأخّراً جدّاً جدّاً- في ما آلت إليه حال الحزب، من انفراغ وجدب، والشخصية الحزبيّة من هشاشة ولدانة؛ وهذا ما تبدّى بشكل كارثي مع بداية التحرّكات غير البريئة في سوريّة، فانكفأ البعثيّون قيادة وقواعد، وغابت الصّلات والعرا، وشحبت الألوان، وتحوّرت الملامح..
ولا شكّ في أنّ الحزب صار قائداً في الدّولة والمجتمع؛ لأنّه كان –هل ما يزال؟!- معبّراً عن أحلام الناس وعواطفهم، وتمثَّلَ اندفاعتهم وحماستهم، مع ما يحمل هذا، إضافة إلى الوعي والرؤيا، من انفعال وتسرّع؛ ولأنّهُ صار قائداً في الدّولة والمجتمع، تدافع إليه من هبّ وما دبّ! من دون الوقوف طويلاً عند المفهومات والشعارات والقناعات والتضحيات؛ بل الطموحات والحاجات والغايات والنزوات.. وفي حمّى التّدافع لقطف الثّمرات بلا سلالم، ولا نضوج، تكسّرت الغصون، وتهشّمت الجذوع، واضطرب الموسم، وتبدّد الجنى! من دون أن ننسى أنّ هناك حقولاً اُستصلحت، وبناءً أُقيمَ، وشجراً قام، وغذاء توافر، وإلقاحاً جرى، وثماراً تشكّلت، وفصولاً عبرت لم تكن كلّها موائمة للزروع والضروع؛ لكنّ ذلك لا يُعفينا من تحمّل المسؤوليّة جميعاً عمّا جرى، كلّ من موقعه الذي كان فيه، والمهمّة التي تسنَّمَها، والإمكانيّة التي أهرقها، أو أساء استعمالها، أو أماتها؛ المسؤوليّة التي تبدأ من التنسيب العشوائي، ولا تنتهي بالمراجعة المغيَّبة والتقويم الموضوعي المفقود؛ مروراً بآليات الاختيار المشلولة أو المشوَّهة، والممارسات المخيِّبة، والمَنْحِ بلا احتساب، والمَنْعِ بلا وجه حقّ! لقد افتقد الحزب الحيويّة التي تقوم بالتّرميم الذاتي والتنظيف والتصويب والتحصين، وافتقر إلى المنافسة الشّريفة الّتي تعتمد على التحصيل والتقوية والإنجاز؛ فطافت في معظم الحالات القشور والفوارغ، وتعالت التدشّؤات والمدائح حتّى في الولائم المُقامة على شرف الميّت، من دون التأكّد إن كانت أنفاسه قد خمدت فعلاً؛ لأنّها لن تُسمعَ في ضجيج المَضغ والتّبريكات، كما لم تُسمع أنّات الوجع والتفجّع، ولم تُرَ أعراضُ الوهن وزفرات الانكفاء، أو الإقصاء –بلا قصد ربّما-؛ بل بحكم البضاعة الرديئة التي تطرد ما كان، أو ما هو أكثر قابليّة إلى أن يكون أفضل! حتّى تحوّلت المآتم المعلنة إلى مناسبات احتفالية!
هل هذا توصيف فات زمنه، أو بهتت فائدته؟!
وهل أُنجز المطلوب، أو تمّت المعالجة، بمجرّد أن نقول أخطؤوا –ولا نقول أخطأنا-؟! لأنّ الحقّ دائماً على الآخرين؛ أمّا نحن فملائكة لم يَسمح لنا الشياطين بأن نقوم بالمطلوب، من دون أن ننظر في أحوالنا، وما إذا كان الشيطان قد أغوانا مرّة، فارتكبنا الفواحش بلا قصد أو وعي مرات! وبالتّالي لا جُناحَ ولا غُرْمَ، وهذا يسوّغ أن نسعى إلى أن نتبوّأ المسؤولية من جديد، مهما كانت أهميّتها، وفي فترة الإصلاح الجذريّ، حتّى لو اعتمدنا الأساليب الشيطانيّة نفسها!
مهمّ قول هذا الكلام الآن؛ لأنّنا نحسب أنّنا في مرحلة الاستنهاض أو الانبعاث، كما هو معلن ومزمع ومتوقّع وضروريّ؛ فلا يمكن الانتظار أكثر، ولا إمكانيّة لبيع الكلام والوعود والأمنيات؛ لأنّ ما من أحد يستطيع أو يقبل شراءها، وقد طالت فترة الفواجع، واستشرت أمراض مزمنة، واستفحلت سلوكات مشينة: التّجارة بالدّم والقوت والمصائر!
ولكنّنا لن نكون واهمين؛ فنتصوّر أنّ الحلّ وشيك، ونهائيّ، وأنّ الباطل سيُزهَق، أو أنّه يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ لأنّ ذلك سيجعل الانتكاسة أقسى وأمرّ، والخيبة كارثية!
فإذا كان المُرتَجى والمطلوب بيّناً جليّاً، فإنّ آليّات الوصول إليه ما تزال غامضة أو ارتجاليّة أو عاجزة؛ فالانتحابات على علّاتها ليست ممكنة في الكثير من المناطق، والبديل عنها اختيار وتعيين، والسُّبُلُ إلى ذلك معطيات ومسموعات وعلاقات، وإذا كان هناك شبه إجماع على أنّ الجهاز الحزبي غاب أو غُيِّبَ طوال سنوات؛ فقياداته التي كانت إمّا ضعيفة أو متورّطة وبالتالي مُدانة؛ فمن أين ستأتي المعلومات المخوِّلة للمهمّات الجديدة، وكيف ستصل، وما درجة مصداقيّتها؟! في ظلّ تحييد الجهات الأخرى –كما يُشاع ويُفترض- تلك التي كانت تتدخّل في ذلك، ويُشتكى منها! وهل من الممكن تمحيص ما يَتوافر أو يُستدعى من معلومات، لإجراء تقاطعات بينها، والخروج بالأجدر خلال وقت قياسيّ في الضّيق والحرج؟!
المرحلة التي نعيش دقيقة وحسّاسة، والمسؤوليّة مضاعفة، والمراجعة ضروريّة؛ فمن الطبيعي أن يؤدّي القفز فوق ما كان قبل الأزمة وفي أثنائها، أو التغافل عنه أو التساهل حياله إلى تموضع حفرٍ أو فجواتٍ أو أخاديدَ تجعل الحال القادمة معرّضةً للتعثّر والعجز، بسبب البُؤرِ الّتي لم تعالَجْ، والكائنات، كي لا نقول الحشرات، الّتي لم تحاسَبْ أو تُبعَدْ، وبالتّالي سنظلّ في دوّامة الشكوى والاتّهام والقصور!
من الطبيعي أن تقوم بالمراجعة المحطّات الموصوفة في الكيان الحزبي، وإذا ما كان المؤتمر القطري ما يزال في الانتظار والتكهّن، والوصول إليه أيضاً يقتضي آلياتٍ أكثر سلامة وضبطاً وأمانة لاختيار الأفضل والأنسب والأقدر على القيام بالمطلوب الكبير، وليس من الممكن أن يكون لقاء لجنة قطرية مع مئات البعثيين من أصحاب مسؤوليّات ما يزالون قائمين بها، أو صاروا سابقين بلا أيّ مساءلة، في محافظة تعدّ بالملايين، لا يمكن أن يكون مؤتمراً تأسيسيّاً كما قال أحد أعضاء اللجنة في واحد من هذه اللّقاءات؛ لأنّ الحيّز المضغوط، والوقت الضاغط، وكثرة الموضوعات وتداخلها، وحبّ الاستعراض لدى البعض؛ إضافة إلى الفوضى والتشويش، والمماحكات الفرديّة، والدّفاع في وجه هجومٍ واقع أو تغيير ٍمحتمل.. كلّ ذلك يجعل الفائدة أقلّ ممّا هو مأمول، إلا إذا كان كيل الاتّهام إلى المرحلة السابقة يحلّ المشكلة، ويخرج الزّير من البير!
لا يعني هذا الكلام تشاؤماً أو تيئيساً؛ بل هو دعوة إلى أن يعرف كلّ منّا أنّ عليه مسؤوليّة، وعليه أن يتواضع، وأن يقوم بمراجعة ذاتيّة، واعتراف ولو بينه وبين نفسه بما أخطأ أو قصّر؛ لأنّ من سيستلم الدّفّة أناس منّا، ولن تأتي كائنات من دولة أخرى أو كوكب آخر؛ هذا هو الواقع، وهذا نحن، وهذه مسؤوليّتنا الّتي كانت وستكون؛ إنّها محاولة لكي لا نرفع سقف توقّعاتنا كثيراً، ولنبقيَ سماء آمالنا عالية، ونسعى إلى تحقيقها بجدّية ووعي ومنهجيّة ومسؤوليّة.
***

اترك رداً