الفئة: قصة
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبيّ- العدد (1827م)
تاريخ النشر: (23) تمّوز (2023م)
رابط النص الأصلي: 

الرُّقعة!

1

درسنا اليوم عن خطّ الرُّقعة.

قال الأستاذ المتجهّم، وبدأ يخطّ على السبّورة عبارة ما.

سمعتُ ضحكة مكتومة، حسب صاحبها أنّي لم أسمعها، فمدّ إصبعه ولكزني في خاصرتي اليمنى، وقال: هذا من أجلك يا سمير، أنت شاطر في هذا؛ فلديك عدد منها. مددتُ يدي المجاورة له إلى جنبي، والأخرى إلى كتفي، وضممت ساقيّ بانفعال، فأحسستُ أنّني أُشدُّ، وشعرت بالتمزّق؛ فأنا أحتاج إلى أكثر من يديّ لإخفاء الرقعات! طأطأتُ، فيما قهقهاته الخافتة تثقّب جسدي، وتطفئ روحي.

كان فرحان يسخر منّي مراراً، وقال يوماً: لديك “ضوّايات” كسيّارة جدّي، لكنّها غير متناظرة. كان قد ورد التناظر في الدرس قبل الفرصة، وكنت أقابل سخريّته غالباً بعدم اكتراث ظاهر، مع احتراق كامن، واجتهاد، يجعله يتوقّف إلى حين، عند كلّ علامة مذاكرة، أو تسميعة؛ كان هذا يعزّيني؛ إضافة إلى أنّني، لم أكن وحدي من يحمل دلالات الفقر هذه، التي يكاد لا يخلو منها تلميذ سواه.

*

لستُ “دقّة قديمة”؛ كما تقول زوجتي، التي نجحت أخيراً في ارتداء سروال ضيّق، بعد نكد، تطاول، بينما تتقاصر أثواب، وتزداد ضيقاً وشفافية على كائنات أخرى، لا تني تذكّرني بهنّ، وبأنّها لا تريد أن تكون مثلهنّ، وأنّ ما ترغب به، لا يؤثّر على الاحترام، الذي تلقاه أسرتنا الصغيرة. وقد بدأتُ بالتنازل، بعد أن أصبح ثلاثتهم؛ هي والصبيّ والبنت في موقف واحد؛ فحتّى لو ادّعيتُ أنّني حضاريّ، ووصلتُ إلى التصويت، سأخسر بالديمقراطيّة، التي أحاضر فيها أمامهم، وفي أمكنة أخرى.

لستُ “دقّة قديمة”؛ كما يقول زملائي، الذين يطلبون النارجيلة في جلساتنا، ويقرقرون؛ كما كان يقرقر بطني من البرد والشحّ تلك الأيام؛ كغالبيّة الزملاء، ومن يغالب تلك القرقرة قليلون؛  ببعض حبّات التمر؛ منتزعة من وعاء القشّ الواسع في الدكّان القريب؛ في حين يتباهى فرحان بمصّ قرون الحلوى الملوّنة، والراحة المحشوّة بالفستق؛ كما كان يرينا، ونحاول الانشغال عن كلّ ذلك، بالحركة والحكايا الدافئة، ريثما نعود إلى الغرفة الطينيةّ المستأجرة الشبيهة بالبيت، الذي يحتوينا تحت سقف واحد، مع العنزة الشاميّة وذرّيتها المتجدّدة! تلك الغرفة، التي يكرّر فرحان شتمها، ويبالغ في نفض ثيابه من غبارها، وقد يساعده زملاء، أو يقومون بهذا عوضاً عنه، ونغتبط بوجودنا فيها، ويعبّر الأهل مِراراً عن هذه الغبطة؛ فهي تشكّل إحدى غرفتَي مدرستنا الجديدة الاقرب؛ الإنجازَ الرائد في المنطقة؛ حيث فشل والد فرحان في تكرار إنجاز والده؛ بإبعادها إلى قرية أخرى!

وأُكّد موقفي من هذه القارورة المتطاولة المزيّنة، كلّ مناسبة؛ على الرغم من رائحتها المطيّبة أحياناً: إنّها أسوأ من التدخين، الذي لا أستسيغه، ولا أطيق منظره؛ ولا سيّما، حين تكون امرأة؛ أيّة امرأة، تشرع سيجارتها، أو تقرقر! وهذا ما جعل الأصوات تتعالى ضدّي متّهمة مستنكرة، حتّى في البيت، الذي أحرص فيه على الحوار الهادئ، ومحاولات الإقناع بالتي هي أحسن، لدى مناقشة أيّ موضوع.

وأفكّر في نفسي: هل أنا حقّاً؛ كما يتّهمون؟! ولماذا عليّ تمثّل كلّ ما يستجدّ في هذا العالم؟! ومن الذي يستطيع إقناعي بأنّه تطوّر طبيعيّ ومنطقيّ ومفهوم؟! ومن يقنعني بأنّ عليّ الرضا والتمتّع بما يقرّره آخرون، في مكان ما من العالم؛ مظهراً وشكلاً ونوعاً، وأبدّله إلى ما تتطلّبه الموضة الأحدث؟! فتتشابه ربطات العنق لدى مَنْ يظهرون في مختلف قنوات التلفزة، وتتنافر ألوان الشعر، ويطول، أو يقصر؛ وتتطاول مقدّمات الأحذية، أو تختصر؛ تتعالى كِعابها، أو تزحف…

“من الذي يفرض هذا الأمر، ويمارس الضغوط؛ لنقوم بتنفيذ ما يريد؟! حتّى إذا ما أردت أن تعاند، فستبحث طويلاً عن ضالّتك، التي ما يزال يحافظ على تفصيلها خيّاط مسنّ أو حذّاء تقليدي، أو بائع ذو بضاعة كاسدة!

وتقول لي لستَ “دقّة قديمة!””

بيد أنّ هذه التهشيمات، التي تخلّفها مخالب النمر وكائنات أخرى وأسنانها على الثياب، والفتحات غير منتظمة الأشكال، وغير متناظرة المواقع؛ مستورة برقعات، أو متروكة للهواء الطلق، ولأعين الفضوليّين والمتعجّبين، فتلك لعمري ما لا يمكن توقّعه أو تخيّله. 

 قال بعض أصحابي: والآن ماذا تقول؟! هي من عاداتك القديمة؛ لعلّك وصلت إلى البيت السرّيّ للموضة، وأقنعتهم بما كنت ترتدي؛ انتقاماً ربّما من فرحان، ستبحث عن حفيد الأغا، يجب أن تبحث عنه؛ لترى إن كانت بناته، اللاتي يسابقن الموضات، ويسبقنها أحياناً، يرتدين مثل تلك الرقع، أو تلك التمزّقات التي تُترك مستباحة للعيون المحدّقة والنسيم المشاكس! يمكنك أن تذكّره بما كان عليه الحال منذ نصف قرن أو يزيد. قد يضحك منك مجدّداً؛ لأنّك لا تلبس مثل هذه الألبسة، على الرغم من أنّ ولديك أصرّا على ذلك: هل تريدنا أن نصبح فرجة بردائنا الكتيم؛ كأصحاب الأفكار العاتمة؟! قال الشابّ، واستدركت الشابّة: عفواً يا أبي، نحن نقصد العيّنات المتطرّفة التي تظهر كثيراً هذه الأيّام، وتحاول فرض ظلاميّتها!

2

  • جدّي.. انظر، تدرّبت على خطّ الرقعة؛ كما طلبت المعلّمة.

نظرتَ إليه، تفرّست ببذلته الجديدة الممزّقة بحرفيّة مراهقة، ثمّ أمعنتَ في البعيد، وغرغرتْ عيناك بالدموع.

  • أحسنت يا جدّي، أنا فخور بالرقعة.

وضعت يدك على صدرك، كأنّك تذكّرت أمراً، تغافلت عنه، أو حاولت ذلك عبثاً؛ فاستدركتَ:

  • بتلك الرقعة!

لم تكن تظنّ أنّ الرقعة ستخترق حياتك؛ كما اخترقت جسدك، ووصلت إلى جوار قلبك! ضحكت بمرارة، حين قال الطبيب مداعباً: شرايينك متضيّقة متضاغطة، تكاد تتمزّق، وتحتاج إلى رقعات؛ عفواً شبكات؛ ثلاث على الأقلّ؛ واستدرك: عليك أن تترك التدخين، والدسم، وتمارس الرياضة بجدّيّة.

     تبسّمت زوجتك، قبل أن تغصّ، ودارى الولدان وجهيهما.

قال بعض من عادني من أترابي ضاحكاً: أرأيت أنّك دقّة قديمة، وأنّك لا تستطيع معاندة الطبيعة والعصر والقدر؟! لم ينفعك كرهك للتدخين، وازدراؤك للقرقرة، وتعفّفك عن الدسم، والكحول؛ كما لم تحل الرياضة دون هذا؟!

وقال فرحان حين جاءني باشّاً بكرش يسبقه: حتّى أنت يا سمير؟! أكاد لا أصدّق كلام الأطبّاء: فمن أين لكم؟! أقصد: أعرف عنك؛ أعني: سمعت أنّك مقتصد في طعامك، ولا تحبّ الموائد المزفّرة والولائم العامرة؛ ولست مثلي! لا تخف، قم على طولك، امشِ؛ هه على الرغم من أنّك تمشي، ولست مثلي؛ من مدخل البيت إلى السيّارة، ومن باب السيّارة إلى باب المكتب! على كلّ حال لا يهمّك؛ مارس حياتك كالناس العاديّين، الأمر بسيط، بعض الناس يقومون بمثل هذه العمليّات للزينة؛ في الوجه، أو العين، أو الشعر، حتّى في القلب، إي نعم، وضرب على كرشه البارز: سبقتُك من سنين، لكن ليس إلى كم رقعة بسيطة تدفع في الشرايين؛ عمليّتي كانت غير شكل؛ فتحوا قلبي؛ محسوبك رقّعوا لي القلب من باطن ساقيّ هاتين! ولم تزرني؛ لعلّك لم تسمع، قدّرت ذلك، ولن أعاملك بعملك؛ هل ننسى أيّام المدرسة يا سمير!

أغمضت عينيك وقد بتّ وحيداً:

لقد أدركتْك الرقعات، وتشبّثت بشرايينك، واستأمنتْ داخلك؛ كما استأمَنْتَها على حياتك؛ ما تبقّى منها!

هل ستندم على ما فات، حين كنت تنفعل من ذكر الرقعة، حتّى في خطّ الرقعة!

ولكن، ماذا يقصد المقاول الكبير؟!

 حتّى في هذه يا فرحان!

***

اترك رداً