سأقول منذ البداية بلغة العلم الهندسي: سورية البناء العظيم تعرض لزلزال هائل، فمال وتقلقل، تكسر بعض هشاشاته، وتساقط بعض شرفاته، وما تسوّس من عضائده، وشحبت ألوانه، وكبت أنواره؛ لكنه ظل قائماً؛ لأن قواعده راسخة، وهيكله متين… وهذا مهمّ، والأهمّ أنه سيعود أكثر إشعاعاً وتألقاً وجدوى..
وبلسان العلم الحيوي: شجرة كبيرة تعرضت لعاصفة هوجاء، تقصف كثير من غصونها، وتقشر ما تهرّأ من لحائها، وتهشمت فروعها، وبقيت ناهضة؛ لأنها متجذّرة في التاريخ، عريقة في الوجود الإنساني، ولأنّ لها إرثاً حقيقياً متّصلاً من الصمود والمقاومة، والنّسغ في تصاعده ما يزال، وذلك بوعي الشعب والجيش والقيادة، ولأنّ محصلة القوى الخيّرة أكبر من مساقط القوى الشريرة. ولا شكّ في أنّ قوى العطالة ما تزال تبطئ عجلة القوت، وأشواك التيئيس ما انفكت تحاول التأثير على المعنويات التي ما انهدّت رغم عزيز الضحايا، والعزيمة التي ما وهنت رغم هول الخراب.. فالرحمة للشهداء، والشفاء للجرحى، والعزاء للفاقدين المحزونين الصابرين.. والعقبى للشرفاء المخلصين..
*
-في داخل كل إنسان كائنان اثنان؛
الأول: الكائن الفرد وأساسه في الكيان العضوي.
الثاني: الكائن الاجتماعي (الثقافي) وهو ما يجري التعامل معه للاستفادة منه والسيطرة عليه.
النشاط الفكري للمجتمع أكثر غنى وتعقيداً من النشاط الفكري للفرد.
تتم الهيمنة على الجماهير لتشكيل وعي محدّد بوسيلتين:
-القوة المباشرة.
-الهيمنة الايديولوجية عن طريق: تلاعب وتلقين، ممارسات ومؤثرات على كامل شؤون الحياة.
(البؤر الظلامية: بعض المجرمين يتوّهمون أنهم سيلتقون الرسول بعد الجرائم، إذا ما قُتِلوا، أو أنّ الحوريات سيستقبلنهم بالأحضان!).
*
*ماذا عن الثقافة في الإعلام خلال السنوات القليلة الماضية؛ أي بعد ثورة الاتصالات والفورة الإعلامية:
-البرامج الثقافية السريعة السطحية، التي قد تذاع على قنوات ضعيفة الإرسال، وفي أوقات ميتة!
-الصورة البائسة للمثقف؛ الأديب أو الفنان، في المسلسلات، وتصاحبها السخرية والازدراء والسخف من شكله وأفكاره وسلوكه.
-استخدام بعض الشخصيات الثقافية المرموقة في الفترة الأخيرة مادة للمسلسلات: سيرة حياة ومواقف.. لتسليعه والاستفادة من سمعته في التسويق والربح: نزار قباني، محمود درويش، أم كلثوم، اسمهان..
-انتشار القنوات الدينية، وبروز ظاهرة الدّعاة وبرامجهم وأقراصهم..
-ازدياد المحطات الترفيهية والموضوعات السطحية المبتذلة..
-انحسار الاهتمام بالكتاب والقراءة والانشغال بالشابكة وثقافتها الغابيّة.
-هشاشة العلاقات والروابط العائلية والحزبية والنقابية، مع ازدياد البطالة وتفاقم حاجات الناس الملحة..
لذلك صار معظم الناس شريحتين: شريحة متعلقة بالدين تكفّر الآخرين، وتدين حتى أبسط المظاهر الحياتية.. (انتشار ظاهرة الدعاة وبرامجهم وأقراصهم حتى في السيارات العامة..)؛ وهي شريحة أخذت بالتزايد والامتداد والتكاثف.. على حساب تراجع الفكر القومي، والأحزاب اليسارية..
وشريحة مفرّغة لاهية عابثة غير منتمية إلا للصرعات والبذخ والسعي إلى المال والربح والاستهلاك..
وفي كلا الحالين خسارة وضعف وهشاشة، جرى استثمارها بذكاء وحنكة وتربص!
إن الغاية الأساسية من كل هذا، الذي لم يحدث عبثاً أو عرَضاً، ضرب النواة الثقافية التي تؤمّن للإنسان الحسّ السليم، الذي يمكّنه، مع المعطيات التاريخية، من أن يحمي المواطنين، وبالتالي البلد وحاضره ومستقبله. وهذا ما يسمّى في بحوث وتحليلات ودراسات عديدة “التلاعب بالوعي”..
مؤشرات التلاعب حسب الكاتب الروسي سيرجي قره مورزا، في كتابه “التلاعب بالوعي” الذي صدر أواخر العام 2012م عن الهيئة العامة السورية للكتاب في وزارة الثقافة، ترجمة عياد عيد:
1-إنه نوع من التأثير الروحي النفسي (وليس عنفاً جسدياً أو تهديداً بالعنف). هدف فعل التلاعب هو الروح والبنية النفسية للشخصية الإنسانية.
2-إنه تأثير مخفي، ولا ينبغي أن تكون حقيقة وقوعه ملحوظة من قبل المستهدف بالتلاعب.
3-التلاعب هو التأثير الذي يتطلب مهارة ومعارف كبرى.
4-ينظر المتلاعبون إلى الناس المتلاعب بوعيهم ليس كأشخاص؛ بل كأهداف وأشياء من نوع خاص. التلاعب هو جزء من تكنولوجية السلطة.ص40
خصوصية التلاعب: “إنه لا يحرض الإنسان الخاضع له على أن يفعل ما يريده الآخرون وحسب؛ بل يجبره على أن يرغب في فعل ذلك”. ص42
التلاعب ليس عنفاً؛ بل إغراء… أحد المؤشرات الأكيدة على أن برنامجاً كبيراً للتلاعب بالوعي يتحقق في لحظة ما هو أن الناس يكفون عن إدراك الحجج العقلانية- إنهم يبدون وكأنهم يرغبون في أن يغرر بهم.ص43
الشرط الأول للتلاعب الناجح في أن الغالبية العظمى من المواطنين في الغالبية العظمى من الأحوال لا ترغب في إهدار قواها الروحية والذهنية ولا الوقت على التشكيك ببساطة في الأنباء… لأن الغرق السلبي في تيار المعلومات أسهل بكثير من إعادة المعالجة النقدية لكل إشارة.ص44
الثقافة:
ظهر هذا المفهوم لأول مرة في القرن الثامن عشر، كان يعبّر عن الاستصلاح، أو تحسين المستوى، في الزراعة والبستنة؛ في القرن التاسع عشر صار يشير إلى تحسين المهارات الفردية للإنسان، والتنمية العقلية والروحية، والقدرة البشرية على مستوى العالم؛ في القرن العشرين صار مفهوم الثقافة أساسياً في علم الانتروبولوجيا (الإنسان)، واستعمل للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات..
استعمل العرب مادة “ثقف” في معان عدة؛ منها ما هو معنوي؛ مثل: الحِذق، والفطنة، والذكاء، وسرعة التعلم، وضبط المعرفة؛ ومنها ما هو حسّي؛ مثل: تقويم الشيء المعوج، والتسوية، والظفر بالشيء، والحصول عليه.
وهناك تعاريف عديدة للثقافة منها:
-تعريف المجمع اللغوي: “جملة العلوم، والمعارف، والفنون، التي يُتطلَب الحِذْقُ فيها”.
-وفي القاموس المحيط: ثقِف ثقفاً، وثقافة، صار حاذقاً خفيفاً فطناً، وثقّفه تثقيفاً سوّاه، وهي تعني تثقيف الرمح؛ أي تسويته وتقويمه.
والثقافة هي (الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات).
وهي أيضاً:
-نمط متكامل من المعرفة البشرية.
-التذوق المتميز للفنون الجميلة والعلوم الإنسانية (ثقافة عالية المستوى)؛
-مجموعة من الاتجاهات المشتركة والقيم والأهداف والممارسات التي تميّز مؤسسة أو منظمة أو جماعة..
وأرى أن: الثقافة اكتناز أو سعي إليه، واستلهام وانبثاث وانتثار، وهي نسغ وعصب وروح، وهي انفتاح ورحابة وحيوية وفاعلية وثقة واقتناع وإقناع وإشباع؛ بل توق إلى كل ذلك، واستعداد وقابلية.. والغنى الثقافي يعوّض عن الكثير، أما الشحّ الثقافي فيترجم ضجيجاً وعربدة ومناكفة وأذى نفسياً وبؤساً وخصومات بلا مسوّغات، وعدواناً ربما.. والثقافة ليست رصيد فئة محددة، أو ملكيّة شريحة منبتّة؛ بل قواسم وروابط ووشائج مشتركة بين الجميع، ويسهم فيها الجميع بنسب تختلف؛ ولا شكّ في أنّ مسؤولية إشعاع الثقافة تقع بدرجة أعلى على من يشغل مهمّة في شؤون المعرفة، وينشغل بها، ومن يشتغلون في مؤسساتها؛
إذاً؛ الثقافة فرضُ عين على كل فرد، وخاصة من كان مثقفاً؛ إضافة إلى أنه عمل جماعي لكتلة المثقفين، وللمؤسسات الثقافية. ولا تقاس الثقافة بالكم، معلومات ومعارف، ولا يتوقف جريانها، ولا يصل حاملها إلى الإشباع؛ والثقافة وعي عام، لا يتوقف على الشهادات والنخب مع أهميتها؛ بل يمكن أن يتحلّى بها المواطن العادي..
والتثقيف لا يكون إلزامياً؛ بل بالترغيب والتحفيز وإتاحة الفرصة وتأمين الإمكانية.
فإذا ما كانت المؤسسات الثقافية موجودة، والأبنية الثقافية قائمة، والمكتبات في المراكز الثقافية والمدارس عامرة؛ ما الذي يبقى للإنجاز الثقافي؟! الإنسان!
لنعترف؛ لم يكن القيّمون على الثقافة بالمستوى المطلوب، ولم يكن لدى غالبيتهم العظمى الهاجس الثقافي، الذي يستطيع أن يواجه الإعثارات ويتجاوز المطبات ويغافل الحراس الجهلة، أو يستميلهم إلى ميدانه المضيء!
وهنا تظهر أهمية الشخص الحريص على القيام بواجبه الثقافي، في البرامج والدعوات والمشاركين والموضوعات، والأهم الحوار الذي يتناول ما قدم، وأن لا يكون النشاط عارضاً ومرتجلاً ومناسباتياً..
ولكن ما هو دور المشاركين في النشاط في تثمين الحال الثقافية، من خلال تشجيع الحاضرين على العودة إلى نشاط تال والمشاركة بفعالية..؟!
إذن.. لا بدّ للثقافة من عمليات ثقافية أو نشاطات ثقافية، وهي تنقسم إلى:
النشاط نفسه: موضوعه ونوعه ومنفذه والمنبر والحضور وتفاعلهم.
والطيف الثقافي الذي يغلف هذا النشاط زمنياً: قبله وبعده وفي أثنائه؛ ابتداء من الدعوة إليه، وحتى انتهاء الأثر الذي يخلّفه..
هنا يبرز دور الإعلام في الثقافة؛
الثقافة تحتاج إلى الإعلام لتعمَّم وتنتشر، ولو من خلال “لسان حسود”!
أما حاجة الإعلام إلى الثقافة، فهي أساسية؛ ليغتني، ويقنع، ويَستثمِر، أو يَستغِلّ!!
قد يسيء الإعلام إلى الثقافة، يشوّهها، يجتزئ منها ما يريد، يستخدمها لغاياته، ويفاخر بإنجازاته لنفسه؛ فيصبح أمراً مهماً أن تغطي النشاط، بدلاً من أن يكون النشاط نفسه هو الأساس!
ولكن هل هناك إعلام مختص بالثقافة، أم إعلام عادي يكلف بتغطية ثقافية؟!
وهل نحتاج إلى إعلام ثقافي، أم إلى إعلام مثقف؟!
في مختلف الحالات لا بدّ من الثقافة للإعلامي في أي مجال عمل!
كان الإعلام منذ عقود أكثر اهتماماً بالثقافة، وكانت مادته أكثر ثقافة، (أُدينُ شخصياً للإذاعة بالكثير من المعارف، ولا سيما إذاعة دمشق)، وكان المثقف أديباً أو موسيقياً أو فناناً ضيفاً عزيزاً على مسؤولي المنبر الإعلامي، وعلى المتلقّين أيضاً؛ فهل ما يزال الأمر كذلك؟! أم غدا المثقفون متسوّلين على عدسات الكاميرات وحامليها، والمنافذ الأخرى وأصحابها، إلى أن صاروا أجراء لديهم أو آراء تحت الطلب ورهن التوجهات والمواقف، يحللونها ويسوّغونها ويجرّمون سواها، مستخدمين علومهم ومعارفهم، ومسخّرين أوقاتهم وطاقاتهم لخدمة هذا المنبر أو ذاك؛ أي صار حضورهم سياسياً وليس ثقافياً، وهذا ليس عيباً فيما لو كان في هذا الحضور تاثير مقوّم أو مؤنسن على السياسي! لكن الأمر للأسف معاكس، فيزيدون في بؤس المشهد الثقافي وبالتالي الحضاري؛ فقد يُمارس عليهم القمع الإعلامي بحجة الوقت والمداورة والمشاركات الأخرى: المقاطعة والاعتراض ورفع الصوت والإسكات: أقلّها: “وصلت الفكرة”!، في مظهر مهين!
ولا بد من الإشارة إلى أن السياسة الخارجية في سورية رائدة وصلبة ومتينة وواثقة؛ لأنها ذات بعد ثقافي: الخصومة مع الغرب الاستعماري، الكيان الاسرائيلي هو العدو الحقيقي، الصداقة مع الشرق، الفكر القومي، الالتزام بالوحدة العربية، ثقافة المقومة..
فيما العديد من المثقفين كان متخلفاً جداً وراء السياسة هذه، حين اختار جهة الخصوم: إيران هي العدو، هل نستطيع مواجهة إسرائيل ووراءها أمريكا والغرب كله؟! وسوى ذلك.
هل العاملون في الإعلام الثقافي أناس مهتمون بالثقافة؟!
ملاحظات حول الإعلام الثقافي لدينا:
-انتقائية في اختيار النشاط أو بعض المشاركين فيه؛ ليست بحسب الأهمية في كثير من الأحيان؛ بل حسب العلاقات، وغياب عن بعض النشاطات.
-الابتسار في التغطية؛ الحديث عن جزء من النشاط، أو بعض المشاركين وإهمال الآخرين.
-الاهتمام بالأشخاص أنفسهم في غالبية النشاطات.
-الحضور المتأخر والخروج المبكر.
-خلخلة النشاط أو التشويش عليه من خلال المقابلات في أثنائه.
-عدم التركيز على الحوار الذي قد يجري في نهاية النشاط.
-عدم طرح القضايا الهامة والاكتفاء بالتوصيف إن حدث.
-عدم الاهتمام بالمتلقين وإهمال آرائهم وردود أفعالهم.
-الجهل بالمشاركين في النشاط والموضوع والبرنامج والمناسبة.
-الاهتمام بالمناسبة، وصرف النظر عن النشاط وتقويمه.
المثقف قبل الأزمة
مع كل منعطف أو محنة، ينهض تساؤل لاذع: أين الثقافة والمثقفون؟! والسؤال مشروع، رغم ما قد يبدو فيه من ازدراء أو اتهام. وهو دليل على أن للثقافة -ما يزال- ذكراً أو مقاماً. وعلينا نحن المثقفين أن نسارع إلى إثبات ذلك، بالإجابة على هذا السؤال وعياً وقولاً وسلوكاً، بدل أن نتشرذم خلف السياسيين أو الإعلاميين، أو نمالئ الذين يتّهمون، ونجاريهم في إلقاء التهمة على الآخرين الذين لا نحب ولا نحترم -وقد لا يستحقون- ولا نتفق معهم، ولا نعترف بحقهم في القول والفعل وربما في الحياة؛ وهذه مشكلة حقيقية؛ والمشكلة الأخرى حين لا نسائل أنفسنا: أين كنا؟! وما هو دورنا في الماضي والحاضر؟! وماذا نمثل؟!
وهل كان أداء المثقفين خلال ما مضى وقبل الأزمة، وخلال ما أتيح لهم من مجالات وهي ليست قليلة، مُرضياً ومقنعاً؛ أعني الشريحة المثقفة وليس الأفراد؛ حتى الزاوية الصحفية تُستأثر، والصفحة الثقافية والتحرير الثقافي؛ الموقع والمنبر والعلاقة مع أصحاب القرار والجاه والنفوذ.. والباع الطولى.
في أثناء الأزمة ذابت هذه الشريحة، صمتت غالبيتها، انتقل بعض منها إلى صفوف المعارضة المسلحة المكفرة، انتقاماً أو تشفياً أو تلمظاً.. ومنهم من ظل من موقعه المسؤول على أدائه المربك، وسلوكه القاصر، ويدعي مواجهة مسارب الفساد والإفساد، تلك التي نفذ منها المعتدون؛ وبعض صمد واستبسل مدافعاً عن الوطن وأرضه وكيانه وثقافته، رصيناً في تعامله مع القضايا المحمومة والأفكار المسمومة.. مؤمناً أن الحفاظ على الوطن هو الأهم والأسمى، وليس بهذا الشكل يتم التخلص من السلبيات.. وفي تقديري هؤلاء كانوا المعارضين الحقيقيين لكل مظاهر الخلل قولاً وسلوكاً..
*لا بدّ من ذكر مسألة نغفلها في أحاديثنا واتهاماتنا، وتتعلق بالمزاج العام الذي ساد، وربما أسهمنا فيه، وَلا سيما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية؛ فرحنا، ومنّا من شمت؛ إذ تقلص دور الدولة، وشاخ القطاع العام، ولم يجد من ينقذه أو يدافع عنه، ورحنا نهلل للاستثمارات الخاصة، والانفتاح المحموم على السوق الاستهلاكية، ومفهوماتها ومصطلحاتها، وقد شمل هذا القطاع الثقافي؛ حيث تم عن طريقه، وبماء وجوهنا، غسيل الأموال، برعايات ومسابقات واستعراضات.. ما ساهم في تهيئة الأجواء لقبول الفوضى الهدامة وكائناتها الشاحبة ومفرزاتها الكريهة..
الأزمة في سورية
يستطيع المرء، بعد استعراض الأحداث العالمية واستقرائها منذ ثمانينيات القرن الماضي، أن يستنتج بلا كبير جهد، أن هناك مخططاً يهدف أصحابه إلى تفكيك الاتحادات والكتل الكبيرة، وبثّ الفتن بين مكوّناتها، لتسود الخلافات والمواجهات والصراعات التي تدوم من أجل ضمان عدم العودة إلى التجمّع مجدّداً، فتبقى ضعيفة مشغولة منهكة لاهثة لترميم كياناتها المضعضعة، وتسارع لطلب المساعدة من الدول التي بقيت كبرى في تحالفات عظمى، بشكل مباشر، أو عن طريق الهيئات والمؤسسات الدولية التي تعمل على حساب هذه الدول الحاكمة بأمرها.. ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الغربيات..
ولعلنا نستذكر بدايات ذلك التحرك في بلدان المنظومة الاشتراكية، بعد زيارة للبابا إلى بولونيا، وهي أوّل زيارة من نوعها إلى بلد شيوعي –تلتها زيارات أخرى إلى بلدان مشابهة- وليس أيّ بلد؛ إنه مقر حلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفييتي، الخصم العنيد لحلف الناتو بقيادة أمريكا؛ وبدأت تلك التحرّكات مطلبيّة عن طريق حركة التضامن العمالية التي برزت مع نجومية رئيسها ليخ فاليسا، مدعومة بإعلام غربي مركّز، وسوى ذلك من أشكال الدّعم المعلن والخفيّ. ثم توسّعت دائرة التحرّكات (الشعبيّة) في مختلف الدول الاشتراكية: بلغاريا وهنغاريا ورومانيا.. وتشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين، والمانيا الديمقراطية التي انضمت إلى المانيا الغربية بعد سقوط جدار برلين في مشهد دراماتيكي، ومن ثم بدأ انهيار الاتحاد السوفييتي أخذ بالتفكّك، مع انسحابات متتالية لدول عديدة من الاتحاد السوفييتي وإعلان استقلالها عنه، مع تبعات غير ودّية بين روسيا الوريث الأكبر للاتحاد السوفياتي والدول المنفصلة ولاسيما جورجيا واوكرانيا، رغم التحوّل الذي حدث في روسيا نفسها وانهيار النظام الاشتراكي! إلى أن جاء الدور على الاتحاد اليوغسلافي فتفتّت إلى ستّ دول، لم تلبث أن اشتبكت قواها الداخلية طائفياً وإثنياً، وتدخّل الناتو عن طريق مجلس الأمن ومن خارجه للدفاع عن الأقليّات، وملاحقة زعماء صربيا الدولة الأكبر والأكثر عناداً حتى المحكمة الجنائية الدولية!
بعد تبدّل عميق في أنظمة الحكم في تلك البلدان، وانحيازها إلى المحور الغربي، مع اختلاف الإيقاع، تزعّمت أمريكا العالم.
الطريقة ذاتها، والأدوات عينها، تلك التي استخدمت في منطقتنا العربية؛ حيث نلاحظ:
– استخدام الدين وفعاليته وحساسيته لإثارة المشاعر، واستقطاب أكبر قدر من الناس، عن طريق الفتاوى من رجال دين معروفين، واستغلال المساجد وأيام الجمعة والصلوات الجامعة.
– الاعتماد على الناس العاديين متوسطي التعليم من الطبقات المهمّشة: العمال وأصحاب المهن الحرة، والعاطلون عن العمل حتى من أصحاب الشهادات، والمطالبة بما هو حقّ: تأمين سبل العيش، وتحسين مستوى المعيشة، وشعارات أخرى شهية ومحبّبة على الأسماع القريب منها والبعيد!
– ضرب الرموز والقادة التاريخيين، ومطاردة الرؤساء واصطيادهم وإهانتهم بالقتل أو بالمحاكمة.
– الإعلام الموجّه والمركّز والدعاية المكثفة والواسعة لمفاقمة الأوضاع.
– استخدام بعض المثقفين والمفكرين في الدعاية المضادة، واستغلال انتقادهم حالات غير مقبولة في البلد كالفساد والحزب الواحد والمطالبة بالحريات وسوى ذلك، واستمالتهم وتجييرهم لصالح أعداء البلد التاريخيين.
– استخدام الدول المجاورة ومصالحها وخصائص علاقاتها التاريخية مع الدول المستهدفة في الدعم المباشر ميدانياً ومالياً.
– التبنّي الواضح من قبل الدول الغربيّة للجماعات التي تقوم بالتحرّكات، برغم التخفّي وراء الحقوق الإنسانية، والتردّد في بعض الأحيان، والاندفاع أحياناً أخرى وفق البلد وموقعه وموقفه من الكيان الصهيوني، الذي يمثّل البوصلة التي تتحرك وفقها الدول الغربية!
– استغلال التنوّع الديني والإثني في أسوأ صورة، بما يكفل استمرار الهشاشة والتصدّعات التي يصعب ترميمها، مع التخطيط والسعي إلى تفتيت الدول إلى دويلات بناء على ذلك.
– الدّعم المالي السخيّ للمجموعات المخرّبة وضعاف النفوس من أبناء البلد، والمرتزقة الممولين والتكفيريين من فصائل إرهابيّة معروفة.
– استخدام الهيئات الدّولية، ولا سيما مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة، والجهاز التنفيذي لرغبات الكبار مجلس الأمن، وذراعه العسكري حلف الناتو.
– استخدام الحركات الداخلية لإسقاط الأنظمة، وحين يفشل ذلك، يتم اللجوء إلى التدخّل المباشر، مع إيجاد الذرائع الواقعية أو المفبركة.
ولما كان المخطط قد نجح في البلاد التي كانت اشتراكية، فقد تشجع أصحابه على الاستمرار في مناطق أخرى.
وعلى الرغم من أن منطقتنا العربية لم تكن بعيدة عن بعض مظاهر تلك التحركات، ولا سيما في لبنان، والعراق الذي قام بغزو الكويت ما استدعى حرباً وحصاراً قارساً دام عقداً ونيّف، فغزواً فاجراً بذرائع أخرى ملفقة، عبر تحالف من خارج مجلس الأمن؛ لكن الحالة لم تكن واضحة المعالم كما هي عليه الآن، وكان لوجود الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية أثر كابح، وقد تُركت الساحة بعد ذلك لهيمنة رأس الحربة الغربي المتقدم (اسرائيل)، مع تهيئة الأجواء المبطّنة من عملائهم في دول الخليج ودول أخرى على رأسها مصر، التي قيّدت نفسها بمعاهدة كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، وانتقلت إلى موقع آخر، حتى أنها شاركت في حصار لغزة، وارتبطت الاردن في معاهدة مماثلة “وادي عربة”، ثم سقطت السلطة الفلسطينية في اتفاقية “اوسلو”..
وهذا لا يعني أن القوى الخيّرة استسلمت؛ بل كانت تستقرئ وتتحصّن وتُفشل المخططات والغزوات، كمحور المقاومة الذي تشكل سورية مركزه مع إيران وقوى فاعلة في لبنان، ونهوض دول عديدة في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية في أمريكا اللاتينية.. ومؤخراً ظهور دول البريكس: روسيا-الصين- الهند- البرازيل- جنوب افريقيا.
وعلى الرغم من أن الخطط التي بدأ تنفيذها منذ مستهل العقد الثاني من الألفية الثالثة، مضت قدماً في بعض الأقطار العربية، بسرعة ويسر في تونس ومصر، وصعوبة وبطء في اليمن، وبغزو أطلسي عسكري لليبيا بغطاء عربي سياسي وتمويل ومشاركة، مع تصامم عن الحالة في البحرين، فإنها تتعثّر في سورية؛ بل هي في طريقها إلى الهزيمة، وذلك بسبب وعي الشعب، وقدرة الجيش العربي السوري، وحنكة القيادة، وتنبّه قوى عالمية عظمى أهمها روسيا والصين، إلى ضرورة وقف هذا الزحف الشرّير والآفة السرطانية التي تستهدفها هي الأخرى بعد حين.
لكن الغريب في الأمر أن كثيراً من السياسيين والمفكّرين والمثقّفين العرب لا يرون هذه الوقائع، أو لا يريدون أن يروها، ويتحسسون من كلمة مؤامرة التي أضحت عدواناً مفضوحاً، ويندغمون في هذا المشروع الكارثي بما يشبه الانتحار الفكري والعقائدي..!
وما زلت أستذكر تلك الأديبة البلغارية التي شهدت ذلك التحوّل في بلدها الذي كان آمناً ومكتفياً، كجميع البلدان المشابهة له وقد نالها ما ناله، في إحدى زياراتها إلى سورية بدايات هذا القرن، وخلال جلسة في طرطوس حين قالت بحرقة: أرجوكم لا تدعوا ذلك يحدث في بلدكم!
*دلائل ثقافية:
استغل المعارضون والمعادون للوطن ومشروعه ودوره الرموز الثقافية:
-العَلَم أيام الانتداب، بنجماته ذات الدلالة الطائفية، لأنّ له في الذاكرة الجمعية مكاناً وأثراً، طبعاً يحاولون تجميل الحالة بتسميته علم الاستقلال!
-الأسماء التي أطلقت على العصابات المسلحة وتشكيلاتها؛ أسماء لشخصيات إسلامية وقادة تاريخيين وأعلام وألقاب لها إيقاعها المؤثر.
-القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والأقوال المأثورة، والسير والحكايات.. بتفسيرات خاصة بهم.
-الموسيقا الصاخبة والأناشيد المحفزة….
استهدافات ثقافية:
في العراق:
– سرقة المتاحف ونهب المواقع الأثرية بعد أيام قليلة من احتلال بغداد.
– اغتيال العلماء بأسلوب منظم.
في مصر:
– مداهمة المتحف الوطني، والسطو على بعض موجوداته وتخريب أخرى.
– إحراق أضخم مكتبة تاريخية تضم نحو مئتي ألف كتاب.
– دعوات للنيل من مؤلفات نجيب محفوظ بحجة انعكاساتها الإلحادية.
في سورية:
– إحراق المركز الثقافي في بصرى (تحفة أثرية من آثار بصرى)
– مداهمة المتحف الأول للفسيفساء المعروض في العالم /معرة النعمان، ومتحف إدلب الذي يحوي أضخم مكتبة للرقيمات المحفوظة.
– سرقة الآثار من المواقع الأثرية (تم ضبط أجانب في قلعة شيزر، وأفاميا،) وتم ضبط مواد غالية جداً وشبكة لتهريبها إلى لبنان.
– قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان، وتخريب ضريحه، وتخريب تمثال الشاعر محمد الفراتي في دير الزور.
– ضرب مراكز البحوث في سورية: حلب ودمشق بالتعاون مع العدو الصهيوني.
– اغتيال العلماء: عيسى عبود أصغر مخترع في العالم اغتيل في محله في حمص يوم 18/4/2011م وعديدون آخرون مميزون.
– تدمير المدارس واحتلالها واستخدامها مقرات للعمليات والاعتقال والتعذيب.
– تهديد الرموز الثقافية أدونيس وسواه من الأدباء والمفكرين..
– تدمير الجوامع والكنائس التي لها بعد ثقافي تاريخي وحضاري، واستهداف الأضرحة ونبش القبور التي لها تقدير عند بعض المواطنين.
– الإساءة إلى الحياة من خلال تشويه مظاهرها وتعطيل آلياتها ومعالمها وكائناتها ولا سيما الكائن (العاقل) الذي خلقه الله على مثال صورته، والإساء إلى الموت في صورة الاستهانة بالجثث والتنكيل بها.
– تشويه الهيئة الإنسانية من خلال التعذيب والتقطيع والحرق..
منعكسات ثقافية سلبية للأزمة:
– الخطاب الديني: الفتاوى المحرضة على الشعب السوري والجيش السوري، والخطب المضادة. في استفحاله مشكلة مديدة.
– المصطلحات الطائفية والمذهبية، والعرقية، والمناطقية، الأقلية والأكثرية.. بدل مفهوم المواطنة.
– الضجيج والتشوش والضبابية في المعلومات والوقائع فتشوه الملامح ويسود التشكيك في كل شيء
– تحطيم الرموز الوطنية: شخصية المجاهد الشيخ صالح العلي، وشخصية القائد حافظ الأسد، وجمال عبد الناصر، والسيد الرئيس بشار الأسد، شخصية السيد حسن نصر الله..
– تشويه فكرة المقاومة والممانعة وتضييع البوصلة الحقيقية لسمت المواجهة..
– هيمنة مشاهد الإثارة والعنف والقتل والتعذيب، وتعميم مشاعر الخوف والرعب وتضخيمها ما يعطل ملكات المواجهة وإرادة الصمود والصبر ويضعف التماسك.
– ضعف الحجة ومساحة التحليل والاستنتاج، وهيمنة منطق التكفير والأحادية والعصابات ورفض الحوار، وهيمنة القوة.
– السوقية في تناول القضايا والأشخاص والجماعات، والغوغائية في الكلام والظهورات الإعلامية المتكررة..
– ضعف التواصل بين الناس أو التقليل من الحماسة إليه، وقطع الطرق والسبل.
– التفكك الأسروي والاقتتال البيني، والخصومات الأهلية..
– ضعف الثقة بالنفس وبالآخر وبالتالي هشاشة الكيان الذاتي والمجتمعي..
– الانشداد أكثر فأكثر إلى الإعلام والتلفزيون تحديداً. والحلقة المفرغة!
ويبدو السؤال فيما إذا كان الإعلام الرسمي والخاص المناصر له قادراً على مواجهة هذه الحرب الإعلامية الشرسة ظالماً؛ لكنه حاول وجاهد في ظروف ليست سهلة، وأجاد في الكثير من الحالات، ولا سيما في موضوع كشف التزييف والتضليل لدى المهاجمين؛ مما دعا إلى استهدافه المباشر: تفجيرات واغتيالات وخطف وتقشرات.. (الانشقاق يعني خروج كتلة منسجمة أو ذات قوام محدد ومعروف. وليس فرداً أو أفراداً).
هذه القضايا كلها تحتاج إلى معالجة بعد الخروج من الأزمة؛ وكيف يمكن أن تعالج إلا بالثقافة:
لقد طرحتْ أشكال للحل منذ بداية المحنة: الحل السياسي، الحل الأمني، وتراوح السؤال حول الأولوية بينهما، أو السير المتوازي بهما، وأضاف السيد الرئيس الحل الاجتماعي؛ في تقديري إن الحل الناجع ثقافي في الحاضر والآتي، بقية الحلول إسعافية وراهنة.. وهنا تأتي مسؤولية المثقفين قبل المؤسسات الثقافية، وفي هذه المؤسسات..
لكل عصر كتبه ومفهوماته:
في المرحلة ما قبل السوفييتية كانت السيادة للأفكار الفلسفية والكتب الأدبية والأساطير والغيبيات
في المرحلة السوفييتية سادت الكتب والمطبوعات التي تتعلّق بالاشتراكية والشيوعية والماركسية والمادية
بعد تفكك المنظومة الاشتراكية بدأت تسود الكتب الدينية المذهبية وكتب الاستهلاك المعيشي الطبخ والأبراج وكتب العولمة وأفكار ما بعد الحداثة!
من دون أن ننسى ثقافة المقاومة والاستشهاد، التي حاول العديد تشويهها..
ما رأيكم في المرحلة القادمة تواً ونحن نخرج من المحنة؟! ما الذي يجب أن ينتشر، أو ما المرجح أن يسود؟! وما دورنا في ذلك؟! هل نترك للظروف والقوى والغايات أن تسود؟!
لا بد من إشاعة روح الإيجابية والتقليل من الحالات السلبية، من دون أن نغفل الكلام عن الإساءات ومظاهر القصور والفساد لكن في سياقه والمواقع التي يكون في ذلك جدوى؟!
هل اُستهدفنا لأننا أقوياء مقاومون مخلصون واثقون أصحاب رؤى، أم لأننا فاسدون متعصبون متهرئون؟! أم كان الجواب الثاني وسيلة للخلاص من الجواب الأول؟!
لا يصح الكلام الذي يؤدي إلى اليأس مثل: أنا خائف من أن شيئاً لن يتغير بعد أن ننتهي من الأزمة؛ يعني كأن تقول للمريض: إن شفيت من الجلطة لن تشفى من السرطان؛ فهل بمثل هذا يكون الحل؟!
أو مثلاً: الناس تعبت! أو الجيش أنهك.. ماذا يعني ذلك؟! هل نترك الساحة للأعداء وأدواتهم من العصابات المسلحة؟!
هل نفكر في ذلك، وأسئلة أخرى قبل أن نطرحها؟!
النفوس حزينة تحتاج إلى من يهدهدها، والأعصاب مشدودة تحتاج إلى من يريحها، والأفكار مشوشة تحتاج إلى تصفية وتنقية.
لا بد من قدر مهم من التسامح والغفران، مع المطالبة بالمحاسبة لمن أجرم بحق الوطن والمواطنين قبل المحنة وفي أثنائها. الأمر هنا يحتاج إلى المزيد من الحكمة والشجاعة والثقة والحنكة.
***
غسان كامل ونوس
المراجع:
-عالم المعرفة.. مارس 2012م: وسائل الإعلام والمجتمع- وجهة نظر نقدية- تأليف آرثر آسابيرغر- ترجمة صالح خليل أبو إصبع.
-التلاعب بالوعي- تأليف سيرجي غير غيفيتش قره-مورزا- ترجمة عياد عيد. وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب.
-ندوة جمعية البحوث والدراسات في اتحاد الكتاب العرب- دمشق 2011م