الفئة: رؤية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

مرثيّة!

غسان كامل ونوس-

فيما يجدّ العمر إلى نهايته، من دون تشاؤم أو تفاؤل، تغالبني أحاسيس وأفكار، ما تزال تلحّ؛ كي تخرج إلى متلقّ مهتمّ؛ أطاوعها حيناً، وأراودها عن رغبتها حيناً؛ باحثاً معها عن ذلك المتلقّي المهتمّ! ويؤسفني أنّ كثيراً منها سيبقى- لا محالة- في مكامنه؛ لضيق وقت، أو عسر حال، أو عكر ظرف…

وحين أفكّر فيما خرج، من تلك الانشغالات والانفعالات والمحاكمات، إلى الورق، ويُخزّن في أجهزة، وما يزال يتشهّى عيناً أو أذناً أو عقلاً؛ في نحو عشرين مخطوطة أو أكثر، قد أعجز عن إصدار غالبيّتها، ينتابني القلق، والأرق، ولست آمل في حلّ مجدٍ لها، ولا أحمّل أحداً تبعات هذا الأمر من بعدي، ولا آمل منهم الكثير؛ فلديهم ما يشغلهم، وليست لدى أيّ آخر معرفة بما لديّ؛ وهو كثير، يُستزاد باطّراد، ولن تكون سهلة متابعةُ دقائقه وتفصيلاته وحيثيّاته، ومن الصعب الاستمرار في ما أقوم به؛ اعتماداً على ما أحوزه من خبرة، وما أحرص عليه من دقّة وعناية في الشكل والمضمون والمسار والمآل…

وبدلاً من أن أخفّف عن نفسي؛ بأنّ تلك المخطوطات، حتّى لو صدرت، لن تكون حالها أفضل من غالبيّة ما صدر فعلاً في اثنين وثلاثين كتاباً متنوّعاً في أجناس الأدب؛ تلك التي لم تلق الاهتمام المرتجى، والمتابعة المأمولة؛ فإنّني بذلك أزيد من مواجعها؛ ولا سيّما أنّ متطلّبات الطباعة الورقيّة تتضاعف، والفضاء الإلكتروني ثقب أسود، يبتلع ما يلقى فيه! وما يضاعف هذه المواجع، أنْ ليس في خروجنا الشخصي إلى الناس؛ هذا الذي تزداد عوائقه وعثراته، كثير ممّا يعوّض، وليس الحضور المحدود، بقادر على الإقناع بالجدوى؛ كما أنّ المتابعة الافتراضيّة لا تُغني؛ بالرغم من التعليقات والمداخلات العديدة، والمواكبة المجامِلة في كثير منها!

إذا كانت هذه هي الحال، وأنا ما زلت بينهم؛ فهل “سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم” بعد أن أغيب؟! والسؤال الأمرّ: هل سيجدّ جدّهم؟!

لقد آمنتُ، وما زلت أومن؛ بأهمّيّة الثقافة؛ هذا المجال الحيويّ للإنسانيّة، وبذلت ما أستطيع من أجل التشجيع على ارتياده، ولكنّني أكاد أخيب، لولا بقيّة موهوبة مجدّة طموحة… فأوضاع هذا الكائن الموسوم بالعاقل، لا تسير على ما يؤمل، في القريب والبعيد، البشر محمومون في الجري وراء مصالحهم وغاياتهم، ولا يشبعون؛ لنقص في المدخول والمعروض؛ أو لزيادة في جرثوم النهم، وغريزة الهيمنة، وجريرة حرمان الآخرين، والتلذّذ في رؤيتهم يعانون، ويئنّون.

أنا هنا لا أستجدي أحداً، ولا موقفاً، ولا مواساة، ولا أتّهم أحداً بذاته، ولا أتوقّع- ولا أتأمّل- تغييراً مفاجئاً في المسار؛ فأنا (أعرف البير وغطاه)؛ هل أقول: ليتني لم أعرف؟! لا.. فقد عرفت؛ لأنّي وصلت إلى ما وصلت، وما يزال لديّ الكثير، وأشهد أنّني ما قصّرت، وما تردّدت، ولم أبخل بشيء مادّيّ أو معنويّ، في سبيل الرسالة النبيلة القديمة الجديدة المتّصلة؛ وفي الوقت عينه، لم أتخيّل أنّ الأمور يمكن أن تكون على ما هي عليه، من غالبيّة أهل الثقافة المدّعين، وحماتها ورعاتها المفترضين! ومن المحتاجين إليها المكابرين أو الغافلين! لم ينضب أملي، ولم يتلاشَ حلمي، ولم تفتر حماستي، ولم تهِن لهفتي.. نعم؛ بتّ أكثر تفهّما لطبيعة الكائن وملكاته ورغباته، وأقلّ مفاجأة بممارسته، وأكثر قلقاً من نزواته، وأقلّ انفعالاً من شطحاته؛ مع ذلك أُصدم، وأخيب، وأحاول من جديد؛ فهناك- لا شكّ- مَن ما يزال- صادقاً- يقرأ بغبطة وأسى، ويسمع بنشوة وامتعاض، ويشاهد بمتعة ونفور، ويتحسّس، ويتأثّر، ويتحفّز، ويخطو..

هذا مجرّد توجّس بصوت عال، وتحسّر علنيّ على كثير ممّا كان، ويكون، وقد-وآمل ألّا- يكون. ولست أدعو إلى اليأس والقنوط، ولا إلى الكفّ عن تبنّي خيار الثقافة، الذي لا بديل عنه؛ بل أتمنّى أن يزداد التشبث به، وأن تثبت الرؤية، وتشرق الرؤيا… وأودّ أن يسمع من يريد أن يسمع، ومن لا يحبّ أن يسمع، وأن يقف كلّ معنيّ بالأمر؛ مهمّة أو خياراً، على مسؤوليّته؛ وكلٌّ معنيٌّ بالأمر؛ ولا سيّما في الأوقات القارسة؛ كالتي نعيش.

***

غسان كامل ونوس  

اترك رداً