الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: البعث ع 15388
تاريخ النشر: 2015-08-18
رابط النص الأصلي: http://albaath.news.sy/?m=20150818

ما الذي يجعلك تتقدّم أكثر، تطوف، تحلّق؟! وأنا أتردّد في الخطو والدنوّ والدناءة!
ما الذي يمنحك العلوّ والسموّ؟! وأنا أنظر إليك حاسراً كظيماً!
ما الذي يبتعد بك عن مرتع القول، ومَطمى العطالة، والتخبّط العقيم؟! فيما أبقى متدثّراً بخروقي، متعثّراً بمروقي!
ما الذي يقيك الاحتراق، وأنت بين ألسنة الشرارات، والجمرُ في قبضتيك يتشهّى الترمّد؟! فيما يرهقني النسيس في أديمي، والتهرّؤ في كياني، والرماد يكتويني!
وما الذي يمنع عنك البلل، والميازيبُ مطارق فوقك؟! وأكاد أغرق في حفرة آسنة!
ما تُرى في جبينك من إشراق، وفي ملمحك من رضا، وفي يقينك من سرّ؛ وأنت في شحّ من مورد، وضيق في موئل، وبعدٍ عن متع الدنيا؛ وأنا في ملاءة الخمر، ومداد من الأعطيات، وسروج من خراج لا ينضب؛ أحسّ بجرجرة العمر، وضيق جبّتي، وشدّة انحناء قبّتي؟!
ما الذي يجعلك مرتاحاً برغم الحصار، ومندفعاً فوق الحفر والأسلاك والأشواك من دون تردّد أو قلق؟!
وأنا منهمك بلمّ أطراف العباءة عن سواد الاسفلت، وغبار الموطئ المصقول، وهزّ الذؤابة الملوّنة لتلتمع أكثر، فتجتذب المزيد من العيون، أو ليبتعد عنها الذباب..
ما تُراك، لا تهتمّ بما في ما يليك في المجري، وما ينتظرك في الضفّة الأخرى، إن وصلت إليها، ولا بما قد تلاقيه في المياه المعكّرة؛ قد أكون عكّرتُها بتخبّطي، أو برغبتي المحمومة بإعاقتك! هل يخطر في بالك أنّني السبب، وأنّك ربّما كنت الهدف والغاية؟! وهل تجهل ذلك أم تتجاهل؟! وعلى ماذا تعتمد؟! ولماذا تصرّ على الاستمرار في التخويض الواثق؟! ومن أين لك كلّ هذه الثقة، وكل ّتلك القدرة على التحمّل والتغافل والتجاوز والمتابعة والوصول؟! هل تعتقد أنّك ستصل؟! وهل ستصل حقّاً؟! لا أستطيع احتمال مجرّد احتمال ذلك، ولا أتخيّل أنّ هذا يمكن أن يحدث؛ وأفعل كلّ ما بوسعي من أجل ألّا يتحقّق..
ولكن..
ماذا تُراك فاعلاً، لو وجدتَني أمامك، بمسافات ربّما؛ أيّاً كان العبور، ووسيلته، وعناصره، وموقعه، واتّجاهه؟! هذا ما يشغلني، وهذا ما أستميت من أجله، لا من أجل أيّ شيء آخر، أدّعيه، ولا أيّ أمر آخر، أقول به، ولا أيّ شعار أحمله، أو يحمله التابعون المرافقون المنتظرون المتحمّسون، الجاهزون للتضحية بأنفسهم من أجلي لا من أجله!
أحاول إمعاناً في استفزازك، أن أكون قريباً منك، لأراك وأنت تصطدم بالعوائق، فتقلق، أو تحبط، وتشتدّ عليك الأقدار، التي لي فيها يد، وأحرص أن ترى أنّي أراك، لأتشفّى برؤية الانزعاج والانقباض والحيرة، وأتشفّى أكثر بالاستغاثة، بطلبك المساعدة مني، حتّى لو كان تلميحاً أو إشارة او لهفة؛ وأرضى بأن تطلب ذلك من آخرين، لا تعرف أنّهم من أتباعي المجنّدين لمراقبتك ومرافقتك أو انتظارك، في أيّ مكان تنوي عبوره، أو تستهدفه. لكن ما يؤلمني أكثر فأكثر، أنّ شيئاً من هذا لم يحدث حتّى الآن؛ فهل أيأس وأخيب لأنّه لا يحدث، لن يحدث؟!
أعرف أنّك معتاد على توقّع الخيبات، وعلى تحمّل الخسارات، ولكنّك متمرّس أيضاً على الصبر وعدم اليأس، والاستمرار في الحلبة، التي لا تنتهي جولاتها.. وهذا ما يخيّبني، وهذا ما لم أعتدْه، ولم أتمرّن على تقبّله؛ فقد لا أحتمل صمودك الدائم، وإصرارك واندفاعك وعنادك، وقد لا أحتمل أن أراك بعد الموج والعمق و”القرش”..
ماذا لو كنتُ كامناً لك في أيّ منعطف؟! حاولتُ ذلك مرّات، وخفت من اندفاعتك، وتركت لك العثرات، وكنت أنتظر سقوطك؛ قد تهوي. لكنّك كنت تقوم، وتتابع، كأنّ شيئاً لم يحدث؛ فكنتُ، على الرغم من إعجابي بشجاعتك، أغتاظ وأكتم غيظي، وأعدّ العدة لثأر آخر، حتّى تنتهي، أو ينتهي السباق، أو تفوت الفرصة.
لا يهمّ أن أصل إلى أيّ مكان، وقد وصلتُ إلى جهات قصوى، وأماكن مميّزة، وظننت أن ذلك سيرديك قانطاً أو عاجزاً. لكنك كنت في اتّجاه آخر، لا يسير فيه؛ لم يعدْ يسير فيه، عاقل أو مرموق؛ كما كنت أعتقد؛ وكنتَ تسعى في مجالات أخرى، لا تثير عِليَةَ القوم، وانفضّ الناس عنها! وكنت أظنّ؛ بل كنت متأكّداً من أنّك ستغيّر الطريق، وتعود إلى جادّة الصواب؛ فتمضي كما يمضي الخلق، الكثرةُ الكاثرة من الخلق؛ أم أنت من طينة مختلفة، ومن تخلّق مغاير؟! فلمْ ترعوِ، ولم تُبدّلْ، ولم تتغيّر! فكيف تريدني أن أرتاح، أو أن أهنأ، أو أهدأ؟!
***

اترك رداً