من الأدب إلى الحياة
الأسبوع الأدبيّ-
غسان كامل ونوس-
يجري الحديث أحياناً كثيرة عن العلاقة بين نتاج الأديب وحياته الشخصيّة وبيئته وظروفه المعيشة..
ولا نعني بهذا ما يعرف بأدب السيرة الذاتيّة، الذي يخصّصه الأديب أو سواه لتسجيل مراحل مسيرته في الحياة والأدب؛ فيذكر منها ما يريد، أن يعرفه الناس من وقائع وظروف وأشخاص ومواقف، كان لها حضور مؤثّر، من وجهة نظره، في ما آلت إليه أحواله، وما وصل إليه من شهرة، وما أصدر من نتاج؛ وطبيعيّ أنّ هذا النوع من الكتابة، لا يتوقّف على الأدباء؛ بل يمكن أن يمارسه أناس، كان لهم دور في ميادين أخرى: سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة واجتماعيّة…
أمّا الموضوع قيد الطرح هنا، فيتناول النصوص الأخرى للكاتب في صنوف الأدب المتنوّعة، التي تتضمّن شخصيّات، تشبهه؛ بأسماء قريبة إلى اسمه أو بعيدة عنه، ومهن مماثلة لمهنته أو مفترقة عنها، أو تحتوي على كائنات تشبه أشخاصاً قريبين منه قرابة دمويّة أو عمليّة، في بيئة أو بيئات عاش فيها الأديب أو عمل فيها، أو زارها لأسباب مختلفة، ولن أستعرض هنا ما يقال تعميماً في هذا الشأن؛ لأنّ المقصود مختلف، إلى حدّ ما، من وجهة نظر المعاينة، مع تعالقه بالموضوع سابق الذكر.
فهل يمكن التعرّف إلى شخصيّة الأديب من خلال نصوصه؟!
إنّ جوهر ما يسعى إليه الأديب- أيّ أديب- كما أرى، أن يكون له صوته الخاصّ، الذي يميّزه عن سواه من الأدباء والكتّاب، وأن يكون له حضوره المفارق، وأن يترك بصمته المؤثّرة في عالم الأدب والثقافة؛ وقد يتحقّق هذا من خلال موضوعاته وأسلوبه ولغته بصياغاتها ومفرداتها، ويظهر هذا من خلال نصوص عديدة. ويمكن لمتابعي هذا الأديب أو ذاك أن يلحظوا هذه المسألة، ويستخرجوا من كتاباته مجموعة من الدلالات، التي تشير إلى صاحبها من دون قصد أو إقحام من الأديب، وربّما من دون انتباه..
سألت ذات حوار مع أديب سوريّ معروف: لماذا يحرص على وجود شخصيّات متشابهة في روايات ثلاث تابعتها؟! فأجابني مستغرباً: صدّقني هذه هي المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى ذلك!
ويتحدّث نقّاد عديدون عن العلاقة الوثيقة بين يوميّات كافكا ورسائله ونصوصه الأدبيّة، والعلاقة بينها وبين حياته الشخصيّة، وقد أسهم هذا في تحليل كتاباته.
وهناك أفكار نقديّة معروفة (تاريخيّة واجتماعيّة وذاتيّة) سادت حيناً من الزمن، كانت تهتمّ بهذا الأمر، وما يزال هناك من يمارس عمله النقديّ وفق هذه المناحي.
ومن الطبيعيّ أنّ من يعرف الكاتب شخصيّاً، ستكون يسيرة لديه المقاربة بين حياته واهتماماته وآرائه، وبين ما يرد في ما يكتب، وهذا قد يستدعي مثل هذه الأفكار؛ كما قد يؤثّر سلباً على المقاربة النقديّة الموضوعيّة؛ إذ قد ينشغل القارئ بالمقارنة بين الواقع والنصّ، ومدى التطابق أو المفارقة؛ من حيث الكائنات والوقائع وتفاصيل البيئة ومفرزاتها، وقد يحاسَب على ذلك بقصد أو من دون قصد، وبنوايا طيّبة أو قاتمة؛ بدلاً من الاهتمام بالأداء الفنّي والانسجام الداخليّ، والقدرة على الإقناع شكلاً ومضموناً.
لكن، هناك القرّاء الذين لا يعرفون الكاتب إلّا من خلال منشوراته في الدوريّات الثقافيّة أو في إصداراته من الكتب؛ فهم قد يكوّنون فكرة عنه، وعن طباعه، وأفكاره، وأحلامه، وأسلوبه في الكتابة والتفكير والتناول والتحليل والاستنتاج.. وقد يعجبون به، فيتابعون كتاباته وأخباره وحواراته، والدراسات حول نتاجه وموقعه في الوسط الثقافيّ؛ أو ينفرون منه، وينفضّون عنه؛ لأنّه لا يوافق اهتماماتهم، ولا يروق لهم أسلوبه، ولا تشغلهم موضوعاته.. وبالرغم من أهمّيّة هذا الرأي؛ لأنّه بعيد عن العواطف الشخصيّة المباشرة، فإنّ هذا لا يعني، بالضرورة، أنّ هذا الكاتب هو على هذي الحال حقّاً، أو أنّ التصوّر، الذي يأخذه القارئ البعيد، إيجابيّاً أو سلبيّاً، مطابقاً لواقع الكاتب وشخصيّته وطريقته في ممارسة الحياة.. وقد تعرّفت شخصيّاً إلى كتّاب، كنت، وما أزال، معجباً بكتاباتهم، وفوجئت بأنّ الشخصيّة الحقيقيّة مختلفة عمّا كان في تصوّري- وتكاد تستغرب أنّ هذا الشخص هو الذي كتب ما قرأت- وتمنّيت لو بقيت بعيداً عنهم، أعيش معهم وفق ما ارتسم في مخيّلتي عن نصوصهم!
وليست واردة محاسبة نتاج الكاتب وفق الواقع الذي يعيشه، واتّخاذ مواقف منه بناء على أنّه يقصد، هذا أو يعني ذاك، أو ينتقد هذه الجهة أو تلك؛ كما يفعل المؤوّلون لأهداف قاتمة سياسيّاً أو اجتماعيّاً أو دينيّاً؛ كما أنّ العاطفة يمكن أن تتأثّر بهذا ابتعاداً أو تودّداً، وفي هذا ظلم للأديب وللقارئ وللأدب ذاته؛ بل إنّ المقاربة، يجب أن تتناول فنّيّة العمل وانسجامه في ذاته، وما قدّمته العناصر المختلفة في النصّ؛ من خلال علائقها البينيّة والعامّة، ومدى قابليّته للتأويل المتعدّد الوجوه، وفي أزمنة مختلفة، وأمكنة متباينة، وما يقدّمه للمدوّنات التي سبقته، من جِدّة في الطرح، والمعالجة، وزوايا الرؤية، ووجهات النظر، وما يثير من كوامن في النفس، ويدفع المتلقّي للتفكير والتحليل وإعادة النظر في أمر ما، أو مسائل متعدّدة.
إضافة إلى ذلك، فإنّ شخصيّات أدبيّة، تعرّفنا إليها في كتب، علقت في أذهاننا من خلال الأدب، ويمكن أن ترافقنا في حياتنا الواقعيّة، وتصبح نماذج للمقارنة مع شخصيّات نقابلها، ونتعامل معها، ولو بعد حين، ونستذكر تلك الشخصيّات في مواقف مختلفة، ومناسبات عديدة.. مثلاً (السيّد أحمد عبد الجواد- كبير الأسرة في ثلاثيّة نجيب محفوظ “بين القصرين- قصر الشوق- السكّريّة”؛ والطروسي- بطل “الشراع والعاصفة” لـ حنّا مينة…)
كما يمكن أن تكون شخصيّة أدبيّة مكوّنة من مجموعة من الصفات، التي تتوزّع في شخصيّات عديدة، ولا جناح على الكاتب في ذلك، حتّى إن تعامل مع شخصيّات من خياله الصرف، وفي واقع مختلف عن واقعنا، لكنّه منسجم مع أدواته، ويقدّم نفسه للناس بصدق فنّيّ وقناعة إبداعيّة.
كما أنّ من الطبيعيّ والمهمّ والمثري، أن تكون كتابة أديب ما إرهاصاً لما سيحدث، أو تنبيهاً، أو تنبّؤاً، أو تحفيزاً.. من دون مباشرة منفّرة، أو قصديّة فجّة..
وهناك نوع من الأدب، يعرف بالخيال العلميّ؛ فهل يمكن أن يحاسَب الأديب على ما يحدث، أو ما لا يحدث، في مسار الحياة المتنوّعة المتبدّلة باطّراد؟!
ولا بدّ من القول إنّ من غير المرغوب أو المجدي أو المفيد، أن يُقلَّد أديب أو شكل من الكتابة، أو نصّ، من دون إلغاء إمكانيّة الإعجاب والتأثّر والتحفيز وأحقّيّتها؛ لكن يبقى الأهمّ أن يكون للأديب صوته الخاصّ، وموقعه المميّز، وأدبه الخالد.
***
غسان كامل ونوس