أضحك إذاً أنا محزون!
الموقف الأدبيّ-
غسان كامل ونوس-
حدث أن اقترفتُ مرّة كتابة نصّ قصصيّ ساخر، من دون أن أقصد- كما هي حال الكتابة المتنوّعة لديّ؛ فلست أختار الموضوع والحالة والشكل؛ بل هي التي تفرض متنها ووسمها؛ بنسبة كبيرة- وبعد أن انتهيت منه، وعدت إليه مرّة ومرّات؛ كما يحدث في العادة أيضاً، ألقيته جانباً!- ولم أعد إلى ذلك لاحقاً- لقد سألت نفسي سؤالاً، لم أعتد على سؤاله، بعد كلّ نصّ أدبيّ: إلى أيّ حدّ، سيتأثّر المتلقّي بالشكل واللون والسطح، وسيؤخذ بالسخرية والضحك، وربّما الانشراح؛ منشغلاً عن الحال الناقدة والموجعة والعميقة والمتّصلة معاناتها، التي كانت- ربّما- في ثنيّات النصّ؛ أو، على الأقلّ، كانت من دواعي كتابته؟! ربّما كان مثل هذا السؤال مشروعاً ووارداً في حالات الكتابة والإبداع الأخرى؛ حول تأثير ما يولّده النصّ من حزن، وإثارة، ومشهديّة، وسواها على عمق المدلول أو المدلولات، واتّساع المديات.. لكنّه في الحال الساخرة، قد يبدو أكثر إشكاليّة وخطورة؛ ولهذا- ربّما- تشحّ النصوص، التي تنتمي إلى هذا النوع، ويقلّ منتجوها؛ على الرغم من استسهال بعض الكتّاب- وغير الكتّاب في فنون أخرى- ذلك النوع من الكتابة، واستغلال حال بهتان حضور الأدب الساخر؛ ليظهروا، وينتشروا!
صحيح أنّ في مجرّد الضحك فوائد؛ تبدأ بتحريك غالبيّة عضلات الوجه، ولا تنتهي بالحيويّة والمتعة والإيجابيّة، التي تجعل صاحب النصّ الساخر، الذي أدّى إلى الضحك، سعيداً أو راضياً، وقد يسوّغ له هذا المبتغى اعتمادَه السخرية سياقاً ومتناً وكساء.. لكن؛ أليس منغّصاً أن يُكتفى باستهلاك الطاقة جلّها من أجل محاولة الإضحاك فحسب؛ على أهمّيّتها؛ فيما الأمر-أمر الحياة والوجود والمآل- في جليّته وجوهره ومنتهاه، يبعث على الأسى والقنوط والخيبة؛ ليس ابتداء بالمعاناة في أثناء الولادة؛ فقبلها معاناة أيضاً؛ ولا انتهاء بالموت المتربّص في انتظار كلّ منّا، وإن بعد حين! وأحسّ شخصيّاً بحال من الكآبة بعد وجبة ضحك، قد تصادف؛ فهل هو خوف موروث ومتأصّل من الضحك؟! ولعلّ الذاكرة الجمعيّة، تؤيّد هذا المنحى وذاك المعنى، حين يبادرنا، ويحاصرنا، من دون أن نقصد، حتّى بيننا وبين أنفسنا، قول ليس مجّانيّاً ولا خلّبيّاً، ولا من دون مسوّغ: “اللهم اجعل هذا الضحك على خير!”. وقد قرأنا، وسمعنا، أنّ كثيرين من الذين يهوون الإضحاك، أو يمتهنونه في الحياة والفنّ، يعانون من اضطرابات نفسيّة، أو هم ليسوا سعداء؛ كما يبدون؛ ويعبّر عن هذي الحال؛ وليس من دون أصل، موّال شعبيّ مصريّ، حين يبوح بإيقاع شاكٍ: “أضحك من الغلب لكنّ البكا غالب على حالي”!
ولهذا، ومع هذا، قد تكثر محاولات الإضحاك والضحك في الظروف الصعبة، وتنتشر الفنون المعبّرة عنه في الملمّات أكثر! وهذا الفرض، أو الظنّ، يحتاج إلى دراسات وأبحاث ومتابعات جادّة؛ للبرهنة عليه، أو تعديله.
وليس فنّ الإضحاك سهل المنال؛ كما قد يبدو، أو يظنّ؛ ما أدّى إلى تعويم وتشويه وتسفيه؛ ربّما؛ بل إنّه الصعب الممتنع، الذي يحتاج إلى ملكات ومهارات وقدرات مميّزة؛ وليس هيّناً أن تفشل، حين ترغب في أن تجعل آخرين، يضحكون من قلب؛ وليس مجاملة ومجاراة ومداراة؛ وقد سعيتَ إلى ذلك، وبذلت جهداً ووقتاً وإمكانيّات؛ ما يجعلك- ربّما- مَضحكة؛ إنّه لصعب وقاس، أو مدعاة للشفقة، وهذا أصعب وأقسى!
ومعروف أنّ من الممكن أن تتباين ردود الأفعال إلى درجة كبيرة، لقاء الطرفة نفسها، حين تخرج من ألسنة متعدّدة، وفي أحوال متشابهة، ومناسبات متقاربة!
إنّ سقوط النصّ، الذي يصنّف منتمياً إلى الأدب الساخر، في الإسفاف والتهريج والثرثرة، وتسوّله الضحك، أو استجدائه بقول، أو لفظ أو حركة أو إيحاء- وقد يُعمد إلى تكرار أيّ منها- يقصيه دفعة واحدة عن أن يكون فنّاً- حتّى إن ادّعى صاحبه أو نقّاده عكس ذلك؛ أو حتّى إن كان كاتبه من المعروفين في هذا الاتّجاه- ويبعده عن التلقّي المستساغ المطلوب، أو الممكن استعادته، ويصبح مادّة ممجوجة غير قابلة للهضم ولا الاستطعام! ومن ثمّ يضعف تأثيره، وتهبط قيمته، ويلقى في سلّة النسيان من ذاكرة الناس، وحافظة الأدب.
وهناك ما يشكّل نسبة مهمّة ممّا يضحك له أو منه أو عليه، يدعو في الواقع- وبعد انطفاء الحال الصاخبة؛ ربّما، التي يستدعيها، أو يستثيرها- إلى ما يبكي؛ أو على الأقلّ إلى ما يجب التفكير مليّاً في أسبابه، ومعطياته، وثناياه، ومستخلصاته؛ ويدخل هذا في ما يعرف بالكوميديا السوداء.
ولا أعتقد أنّ الأدب الساخر يقتصر على الإضحاك؛ كما قد يُظنّ، ويُعمل من أجله؛ كتابة ونقداً، وليس مدعاة له، أو تلبية؛ بل قد تعبّر السخرية عن رغبة في الفضح، والتعرية، والإضاءة، وتوجيه الاهتمام والانتباه، وربّما الانتقام، والدعوة إلى مواجهة الحالة، التي قد يمثّلها كائن أو جماعة، أو ظَرف؛ وجوداً، أو ممارسة، أو تسويقاً، أو امتناعاً عن فعل مطلوب، أو تشويهاً لموقع أو فكرة أو قانون… ومن المهمّ ألّا يظهر هذا مباشرة في النصّ؛ فيُفتقَد الفنّ، ويؤول النصّ إلى إعلان أو دعوة أو نصيحة أو مقالة، أو بيان؛ كما يمكن أن تكون من دوافع السخرية التورية والتمويه وإيصال الفكرة إلى أوسع مدى؛ خوفاً من هيمنة أصحاب الشأن والنفوذ، أو تجنّباً لسطوتهم ولفهمهم ولحواس تابعيهم؛ حتّى من الأدباء؛ وربّ ضارّة نافعة؛ فقد يقرّبهم هذا من الفنّ أكثر؛ وسبق أن كتبتُ منذ زمن: إنّ النصّ، الذي يضبطه الرقيب ضعيف! وقد يكون وراء النصّ الساخر العجز عن المواجهة، واليأس من القدرة عليها، وعلى القيام بالتضحية من أجل التغيير؛ فتصبح المادّة حلّاً على الورق أو في أركان المسرح فحسب، وليس في أحياز الحياة، أو بديلاً عن الحلّ المرتجى، أو ملهاة للناس عن القيام بالمطلوب؛ لتغيير الحال، وإشغالاً لهم بالضحك والتفسير والتشخيص، وكفى المتلقّين عبء التفكير الجادّ، والتأويل المنطقيّ، والعمل الواقعيّ المرجوّ والمنتظر؛ وهذا ما يمكن أن يشار إليه بالتنفيس، الذي قد لا يغتاظ منه المشار إليهم في العمل، أو المقصودون به ومنه، من أصحاب الأقدار الأرضيّة، ويسكتون عنه؛ بل إنّهم قد يدعمونه، ويدفعون إليه ومن أجله، ويكرّمون روّاده!
إنّ للأدب الساخر حضوراً حيويّاً، ووقعاً أثيراً، وطعماً مستعذباً، وتأثيراً مِلحيّاً وسكّريّاً، وإن كان لاذعاً، أو “يُغطّ على القلب”؛ ويشكل لوناً مختلفاً، وحيّزاً مغايراً، لا بدّ من وجوده، والتحفيز على القول فيه والنشاط في جنباته، وتشجيع القائلين به، القادرين عليه؛ لأنّ من المهمّ أن يظهر في المشهد العام للأدب؛ من أجلنا، نحن الأدباء الجادّين العابسين، ومن أجل الناس الواجمين الساهمين الغافلين، ومن أجل الحياة، التي تزداد اكتئاباً وقنوطاً، وفيها؛ سماء وأرضاً، ما يكفي من التجهّم والأسى والهوان.
***
غسان كامل ونوس