من غرابة الأديب وغربته
إلى اغترابه وتغريبه!
الشارقة الثقافيّة-
غسان كامل ونوس-
نشأنا على نظرة إلى الأديب مختلفة عنّا، وعن باقي البشر، وكنّا نتصوّره- والمثقّف عموماً- كائناً غير عاديّ، وربّما خمّنا أحياناً أنّه من عالم مفارق لعوالمنا، وتخيّلناه غريب الأطوار والملام، والتفاصيل الشكليّة والحياتيّة؛ ناهيك بالشخصيّات، التي يتمثّلها، وما تقول، وتتصرّف، في مدوّناته القصيرة والطويلة، الواقعيّة والمفترضة، تلك التي يمكن أن تصل إلينا، من دون ذكره حيناً (ألف ليلة وليلة- سيف بن ذي يزن- تغريبة بني هلال- الأساطير المتنوّعة…)، أو مع سيرته وطقوسه وصوره ومرتسماته، على الألسنة أحياناً؛ مرويّاتٍ وحكايا ونوادر، أو في هيئة كياناتٍ ورقيّة مبجّلة؛ حتّى بعد أن صار كاتبها خارجاً من بيئاتنا المتنوّعة والمتشابهة- وكانوا قلّة- من حيث المشهديّات والحيثيّات والعلاقات والعقائد والأفكار، وغالباً ما ظلّ بعيداً عنّا، وعن مديات أنظارنا؛ منكفئاً في غربته، التي اختارها، أو ارتضاها، أو أُرغم عليها؛ مبتعداً عن تواصلنا واهتماماتنا المباشرة، على الرغم من إقامته- لِماماً- قريباً من موائلنا، أو عاد إلى منبته الأوّل في حيّزنا بين حين وآخر. وإذا كانت العلاقة بين ذلك الصدى المهيمن لدينا عنهم، والتردّد في إقدامنا على التقرّب من دُناهم، مفهومة، وتفسّر جوانب من هذا التباعد المادّيّ، والجاذبيّة المعنويّة الأثيرة والسحريّة؛ وإن كانت حذرة، فإنّ اغترابهم المكانيّ والحياتيّ، الموضوعيّ والذاتيّ، يمكن أن يعدّ مسؤولاً عن جوانب أخرى. وقد سبقت محاولاتِنا تجاوزَ تلك الوعورة إليهم مرّات، حساباتٌ واستعدادات، ليست هيّنة! وللحقّ والتاريخ، فقد كان بعض المحصّلات مثمراً؛ وأخرى أكّدت ما كان يدور قي أذهان العامّة من حولنا، والخاصّة من أمثالنا؛ ومنها ما جعَلَنا نزهد؛ وإن- لحسن الحظّ- إلى حين!
وفيما كنت- وما زلت- أعود إلى تلك المرحلة؛ لتفسير الصيغة المكدّرة الظاهرة والكامنة، بين الأديب -والمثقّف- ومتلقّي نتاجه؛ من جهة، ومن جهة أخرى، بين الأديب المكرّس والكتّاب الذين كانوا ما يزالون يبحثون عن مسالك ممكنة، ومنافذ مبشّرة، في توجّهاتهم الثقافيّة وخطواتهم الأولى؛ كحالنا؛ لأستقصي بعض الأسباب والعوامل لِما كان؛ تمهيداً لفهم مفيد، وتوطئة لسلوك مغاير مرتجى، نأمل أن نمارسه، ونعقد العزم على ذلك؛ ينهض تساؤل يبدو مشروعاً: هل كانت العلّة الرئيسة تلك المقاربة بين الأديب، الذي يحلّق، ويجسّد شخصيّات، ويقصّ حوادث، ويبني مواقف، ويرسم علاقات، وينثر عواطف وأحاسيس؛ تربّينا- في الغالب- على وقائعها الغرائبيّة، وأصدائها الأسطوريّة، وسيرها الخياليّة؛ وبين الكائنات الواردة في المدوّنات؛ حتّى تلك الحديثة منها؛ قياساً بالمرحلة المرصودة؟! من حيث التفكير في أنّ لكلّ من يستطيع التأليف والنشر، إمكانيّات مغايرة، وأشكالاً غير مألوفة؛ وزادَ من تلك الأفكار، ما كان يردنا من آثار شفويّة أو مطبوعة، عن الأدباء الأجانب؛ أولئك الذين عاشوا في بيئات مختلفة، وكانت لهم طقوسهم وسرديّاتهم وهمومهم المتباعدة عمّا لدينا، وملامحهم المثيرة، وصرنا نتوسّم الكاتب- الأديب- على تلك الهيئة؛ وربّما أسهم أدباؤنا في تكريس هذا الأمر، حين صارت أكثريّتهم، تتشبّه بأولئك، فيظهرون على الناس آنذاك بهيئات مماثلة، وقد يقومون بممارسات مشابهة غير مألوفة أيضاً؛ إضافة إلى ما هو طبيعيّ في جوهر الوعي والثقافة، وغير طبيعيّ لدى كثيرين؛ من تمرّد على ما هو عاديّ، ورفض للواقع البائس، تحت الاحتلال الأجنبيّ، أو بعد الخلاص منه، ما يجعلهم في غربة، أو يزيد من غربتهم؛ ولا بأس، أو لا بدّ من أن يكونوا مختلفين في صورهم كذلك، وقد تُروى عنهم مثل تلك السلوكات؛ إعجاباً، ممّن تتوق رؤاهم إلى الانفتاح والضوء والفضاءات؛ أو تنفيراً، من قِبَلِ أناسٍ يهمّهم أن يبقى الواقع متخلّفاً، ورهنَ علاقاته القائمة على معادلات مختلّة، ونفوذهم وهيمنتهم فيه؛ كما قد يتبنّاها بعض الكتّاب افتعالاً؛ ليظهروا مميّزين عن باقي خلق الله!
ولا أنكر أنّ مثل تلك المظاهر والتحرّكات والسير المختلفة، كانت تستهوينا، ونحن في المراحل الأولى؛ لكنّ ذلك اختلف فيما تلا، حين تعدّدت القراءات، وتوسّعت الاطّلاعات، وتمايزت الآراء والأفكار، ولم تعد عقولنا وملكاتنا تكتفي بالانبهار والرغبة والحماسة؛ بل شرعت في تحليل ما نقرأ، ونرى، ونسمع؛ وصولاً إلى أفكار وقناعات وأصوات لها خصوصيّاتها، شرعت تظهر في اللقاءات والحوارات والنشاطات والكتابات؛ بصرف النظر عن مدى صحّتها ودقّتها وقابليّتها للاستمرار.
ثمّ تحقّقت الأحلام، أو بدأت تتجسّد، ودخلنا تضاريس الوسط الثقافيّ ومنعرجاته، وعايشنا ظروفه، وجرّبنا العمل فيه، بعد تعثّرات، وإعثارات، وتحذيرات، وتعرّفنا أكثر إلى حيوات الأدباء، ووجدنا أنّهم بشر مثلنا، ومثل سوانا؛ ولبعضهم، لا شكّ، ما هو غير معتاد، من طبع ومزاج وعادات وعلاقات؛ من دون أن يكون بالضرورة غرابة أو خروجاً على القيم، وفهمنا أو تفهّمنا أنّ للأديب- والفنّان عموماً- مبالغاته وخيالاته وعوالمه وكائناته وانزياحاته وآراءه ومواقفه، وللّاوعي لديه نشاط وحيويّة وتأثير؛ كي يستطيع تكوبن أحياز ومخلوقات وأكوان متخيّلة، أو مركّبة ممّا هو واقع، وما هو مفترض؛ وليس سهلاً تقمّص حالات متعدّدة ومتنوّعة ومتباينة ومفترقة؛ لتتفاعل، وتتعايش في صفحات وفصول وكتب وجرائد ومجلّات، وقد يتماهى معها، أو يستغرق فيها! ومن الأدباء من كان- وما يزال للأسف- يعمد إلى ابتناء مكانة، أو افتعال حالة، وترويجها؛ من أجل ريادة ونجوميّة وسلطة ومكاسب، وقد يساعده آخرون! لكنّ الأهمّ أنّنا صرنا على يقين، من أنّ تلك الغرابة، وتينك الغربة، وذلك الاغتراب، وذينك التغريب، ليست- منفردة أو مجتمعة- شروطاً لازمة- وبعضهم يجدها كافية- لكلّ من يرغب في أن يكون أديباً، وليست واجبة للتميّز والشهرة؛ كما أنّ (اقترافها) ليس عيباً، يلام عليه، ولا جريرة يعاقب بسببها. ووجدنا في مشوارنا الشائق الشائك، تحدّياً آخر، يضاف إلى تحدّيات الكتابة ذاتها، والبحث عن مكانة منظورة، ووقع مقدّر، يتمثّل في أن تعيش حياتك، وتقيم علاقات مع آخرين من الوسط الأدبيّ وسواه، وتمارس مهنتك الوظيفيّة والمهنيّة، وتكوّن أسرة وعلاقات، بشكل طبيعيّ، بلا خضّات وصرعات وشذوذ ربّما! من دون أن يعني هذا استبعاد وجود مخاطر وعقبات، وعدم توقّع التعرّض لصعوبات وانضغاطات، ومعاناة، تشتدّ أحياناً، مع تحمّلِ ظروف قارسة أيضاً، ومواجهات ومفاجآت ومنغّصات من أهل الكار وسواهم.
وفي مراحل متقدّمة، وحين اتّسعت هيمنة الصورة والتلفزة والمسلسلات والظهورات، وبدلاً من أن تتجمّل صورة الأديب، أو يظهر كائناً مرموقاً، وجدنا التركيز على إظهار الصورة القديمة غير المألوفة عينها، أو مع اختلافات قليلة؛ سواء من خلال أعمال فنّيّة، تناولت شخصيّات أدبيّة حقيقيّة مشهورة، أو عبر تقمّص دور الأديب في أخرى ذا شكل غريب، وحياة غير طبيعيّة، وأقوال ونبرات وانفعالات مبالغ فيها! حتّى البرامج الثقافيّة الجادّة؛ على قلّتها، وشحّ رصيدها المادّيّ والزمنيّ، لا يظهر أكثرها في ساعات البثّ الرئيسة، وغالباً ما تُختصر المقابلات واللقاءات والأقوال والمشاهد، التي تتّصل بالمثقّفين، أو تتوقّف الاستضافات الثقافيّة على الأهواء والانتماءات والمواقف، وصار المثقّف؛ أديباً أو فنّاناً.. أداة للإعلان والتسويق، وهو عرضة لهيمنة المذيع أو صاحب المؤسّسة، أو البرنامج؛ حيث يُمكن أن يتطاول عليه؛ فيسكته، أو يحاصره، ويوجّهه بالأسئلة والتدخّلات، أو يفتح له المجال ليستطرد في المنحى الذي تريده النافذة الإعلاميّة وأصحابها؛ أفراداً أو شركات أو حكومات. وقد لا يظهر الأديب محترماً مقدّراً مبادراً خلّاقاً متقدّماً، صاحب رؤيا وموقف واستشراف؛ ولا صاحب شخصيّة مستقلّة مميّزة أو مؤثّرة؛ وهذا مؤسف حقّاً؛ والمؤسف أكثر، أنّ أدباء عديدين، ارتضوا هذه الأدوار، ومنهم من وقع في فخّ الإغراء والترغيب والتلويح بالأعطيات!
وللحقّ والإنصاف أيضاً، فإنّ هناك من بقي أميناً على رسالة الثقافة، حريصاً على المعاني الإيجابيّة الإنسانيّة، التي تمثّلها؛ بنفاذ بصيرة، وثبات، ووقوف صلب ومعلّل ومسوّغ قيميّاً وأخلاقيّاً في وجه محاولات التجييش والتسفيه والتشييء، وليس من دون غرابة وغربة- حتّى في موئله- أو اغتراب أـو تغريب.
***
غسان كامل ونوس