مكتبتي.. والمصير المنتظر!
الشارقة الثقافيّة-
غسان كامل ونوس-
أدلف إليها، أتوغّل في عالمها المختلف، أرنو إلى الرفوف الموزّعة حسب الأجناس الأدبيّة، والعلوم الأخرى، أتقرّى عنوانات الكتب المتنوّعة المتّكئة بعضها إلى بعض؛ واقفة أو مائلة القوام، متقاوية أو متواسية.. أتملّى أغلفتها المتباينة قدّاً ولوناً، وأغمض عينيّ متفكّراً في المصير الذي ينتظرها! أكاد أرى ملامح العتب واللوم، وأسمع، ربّما، أصداء زفرات وأنّات وغصّات… أم أنا الذي أحسّ بها، أو تصدر عنّي، كلّما أمَمْتُها عرضاً، أو قصدتها برغبة دفينة، تعبّر عن نفسها، بمحاولة استعادة ما كان بيننا، وأجرّب إثارة القبض من جديد، على جمراتها، التي لم تترمّد، عبر السنين والأيّام، وبالرغم من ظروف الشحّ والحرمان التي مررْنا بها معاً! لقد أهرقتُ نبضاً، وبذلتَ نزفاً متعدّد المادّة والكثافة؛ للحصول على كلّ كتاب، رغبت في مصاحبته ومرافقته، وكم هي المدوّنات، التي لم يتسنّ لي ولها متعة القرب وحسن الوصال؛ لمهرها الغالي!
لقد فرحتُ- وربّما كنتُ من الكائنات القليلة طيّبة النيّة، التي فرحتْ- في أثناء الحَجْرِ الاحتياطيّ، على ذمّة “كورونا” الملحّ؛ فقد انشغلتُ بعشرات من هذه الكتب، التي كنت قد أرجأت مراودتها عن مضامينها ومدياتها، إلى أجلٍ جاء موعده، بلا ترتيب ولا تخطيط ذاتيّ، وقرأت آلاف الصفحات خلال بضعة أشهر، وهو ما لم يحدث في وقت محدود ملزم كهذا، الذي أُرْغِمنا عليه، وسررتُ باكتشافات ورحلات وأحداث ومواقف ومكاشفات ومشاعر وانفعالات… كحال السجناء، أو أولئك الذين يقبعون في إقامة جبريّة، وباستطاعتهم أن يسرّوا عن أوقاتهم المديدة، وأفكارهم الضاغطة، ويخفّفوا وقع الحَجْر الضاري بخروجٍ مفترض، وتحليق مرغوب، وطواف مشتهى! ومن اليقينيّ أنّنا لا نستطيع أن نشكر السجّانين والمُجْبِرين، والسَّجْنَ ومناسباته؛ أيّاً كانت، ولا أن نحتفي بالفيروس، إلى أيّ فصيلة انتمى، معروفة أو طارئة أو مستحدثة؛ لكن يمكنني القول الآن، وفي كلّ وقت مضى، أو آت: شكراً لمن كتب، وشكراً لمن نشر، ولمن طبع، ووزّع، وأثرى المَشاهد والرؤى والأفكار والميول، وشذّب الأوقات والظروف والعواطف والحالات والعلاقات، وعزّى، وواسى، ووشّى، وأفاض، وزيّن، وعرض، وحفّز… في كلّ ما مرّ، وما سيمرّ من مُناخات واحتمالات.
وماذا بعد؟!
كأنّها تسألني: ماذا بعد؟! وأسائل نفسي: كيف تنظر الآن إلى هذه الأوراق والسطور والكلمات؟! هل ما زلت تحتاج إليها؟! ألا تحسّ إزاءها بمشاعر أخرى متناقضة، ربّما؟! أو متقاطعة؟! وقد دخل الفضاء الالكترونيّ حيّز الاهتمام، ودخلتَ فضاءه، الذي بدأ يهيمن، وبدت آفاقه قيد الرغبة والتلمّظ والتشهّي والتخيّر؟!
لتعترفْ!
ألا تحنّ إلى الورق، يشاغلك، ويستثيرك، وهو يعزّ حالياً على كثيرين في المكتبات والمكاتب والمطابع والدوائر…؟! ألا تدعوك السرعة والسلاسة والسهولة، إلى أن تخطّ ما لديك مباشرة، من على لوحة مفاتيح، وعبر صفحات من ورق، لا يتعب، ولا ينضب؟!
لقد عبّرت كثيراً، في ما مضى، عن ألفة الورق المادّيّ المنوّع؛ قراءةً وكتابة وأماناً؛ فهو لا ينطفئ، ولا يختفي، ولا ينكفئ لدى عطل طارئ أو سبب مجهول، أو انقطاع يتكرّر في الطاقة الضروريّة! ولا يبخل بالملمس والقرب والودّ، ما يبعث على الراحة والنشوة والإحساس بالمشاركة؛ لأنّ أنامل كثيرين عبرت، أو ستعبر، وأنفاس عديدين تردّدت، وتسارعت، أو ستتكاثف فوقه.. وما لديه باقٍ وبالحفظ والصون؛ إلّا لدى استعارة لئيمة، أو فقدٍ عزيز، أو كارثة لا منجى منها!
لتعترف: قلّت زياراتك إليها، لولا “كورونا”- ومكتبات أخرى خاصّة وعامّة بـ”كورونا” ومن دونه- وقلّت مشاكسة الأغلفة والأوراق، ومغالبة الأسطر والمقاطع والفقرات، ومُطايرة الخيالات، ومطاردة التأويلات، ومعاذبة المفردات والصياغات…
لتعترف!
يستهويك البحث عن الأحدث، والأقرب زمناً، والأقلّ كلفة، والمتوافر كلّ حين، وكلّ لحظة، من دون مغبّة/متعة البحث في المكتبات، وانتظار المعارض والمناسبات الحوليّة أو الدوريّة، ومهرجاناتها وإيقاعات أنشطتها المُثرية، وهي تحفل باللقاءات وتبادل الأفكار والحيويّة والمباشرة، والتعرّف عن كثب ورؤية، وسلام وكلام ومشاعر..
ألا يستهويك المسُّ الساحر، الذي يأتي إلى شاشتك بأغنى المكتبات وأبعدها، وأغلى الكتب وأحدثها؟! ألا تقول، ناظراً إلى كتاب ورقيّ: وماذا عن جديد نصوص هذا الكاتب؟! وماذا عن حديث أفكاره وحواراته وآرائه؟! فتترك ما لديك، وقد صار بائتاً، بعد أن كان معتّقاً مستلذّاً؛ بارداً، وكان دافئاً؛ بعيداً، وقد كان ملازماً ورفيقاً؛ فهل صار عبئاً، بعد أن كان فيضاً؟! وهل صار كومة من الكائنات، التي تنقرض، بعد أن كان رفقة أنس، ولمّة ألفة؟!
وماذا بعد؟!
لتعترف!
تخلّصتَ من عدد كبير من الدوريّات والمجلّات العريقة بسلاسلها المتتابعة، التي كنت تفاخر بها، وبأهمّيّتها؛ مشكوراً بوثيقة موقّعة، إلى مركز ثقافيّ قريب، كان موئلاً ورصيداً ومحجّاً، في مرحلة البدايات، ومراحل أخرى!
من الذي يشكر الآخر؟! ومن قد يشكرك بعد، أو تشكر بعد؟!
أولادك.. لديهم انشغالاتهم وهواجسهم وطموحاتهم البعيدة عن الاستقرار والقراءة المستكينة، والكتابة المستنزفة! وصارت المسافة بينهم وبينها متباعدة أكثر، وقد كانت بعيدة عصيّة على مشاكسة بصرهم، ولفت اهتمامهم إليها. وكنت تستغرب: كيف لا ينشدّون إليها؟! كيف لا يستمتعون بمكنوناتها، ولا ينقّبون في مناجمها، ولا تعنيهم كنوزها، ربّما؟! لماذا لا يحسّون كما تحسّ؟! هل فشلتَ في هذا؛ كما فشل سواك؟! ربّما كانوا يستغربون انغماسك فيها، وانشغالك الحميم بها، وتردّدك في الاهتمام بأجهزتهم، بأدواتهم؛ أنسيت أنّهم أولاد الحياة؟! وقد “خلقوا لزمان غير زمانكم”؟!
وماذا بعد؟!
ومن الذي يتعهّد بإفراغ المكان، أو تنظيفه من هذه المتروكات، بعد عمر طويل أو قصير؟!
وكيف ستتصرّف؟!
هل تحجز مكاناً لها في المركز الثقافيّ إيّاه، قبل أن يكتظّ بمكتبات آخرين؟! هل تشترط، او ربّما ترغب، أو تامل، أن يكون لك جناح باسمك فيه، يضمّ آثارك المنقولة؟! وهل ستدوّن هذا في وصيّتك، التي قد تكتفي به، حتّى لا يُختلف عليها، آن تحين ساعة المغادرة التي لا رجعة بعدها؟!
وماذا عن كتبك الشخصيّة، ومخطوطاتك، التي طبعت، والأخرى التي لم تطبع، وقد لا تَفعل؟! ومن هو المغامر الذي سيُقدِم على المجازفة؟! كما فعلتَ إلى الآن؟! أم استقرى- وأسبابه متفهَّمة- تفاصيل المغامرة، واطّلع على مرارة انتظار الفوائد، التي ستأتي؛ قد تأتي، بعد حين وزمن، وقد يتعثّر ذلك، مع تحوّل العصر، واختلاف الاهتمامات والرؤى، وضيق من يقرأ، من كان يقرأ، أكثر فأكثر. ألهذا سارعتَ إلى طباعة ما تيسّر، على حساب أشياء عزيزة أخرى؟! وتريّثت، تتريّث في أمر طباعة ما تبقّى، ما يتجدّد وما يستجدّ؟! ولماذا تصرّ على متابعة الكتابة والاستزادة منها، وتغبط لدى كلّ إنجاز، قلّ أو كثر؟! ولماذا لا تستمرّ في محاولة إنجاز الطباعة إذاً؟! هل تستطيع؟! كيف ستوزّعها؟! ولمن؟! وهل لديك ما يكفي لذلك كلفة وجهداً وعمراً؟! وما هو عدد الذين سيقتنعون، ويقتنون، وسيقرؤون؟! وأنت تعاني من قلّة ما بات يطبع على حساب مؤسّسات ودور رسميّة أو خاصّة، ونوعيّة ما يطبع، وشحّ عدد نسخه، وقلّة ما يهتمّ به القارئ الحاليّ؛ مع شحّ الموارد، وندرة الورق، وتعاظم كلف الطباعة والنشر والتوزيع والتسويق والمشاركة في المعارض والمناسبات داخل البلدان وخارجها، وبتّ تعاني أكثر مع الراغبين بالاقتناء، أو حتّى بالاطّلاع؟!
هل كنت غافلاً عن هذا أو متغافلاً أو ساهياً؟! وهل أدركتك اليقظة القارسة، فسكتَّ عن الكلام المعذَّب؟!
***
غسان كامل ونّوس