قلق الكتابة
الشارقة الثقافيّة-
غسان كامل ونوس-
لم أكن قادراً على تفسير ما يعتريني، حين كنّا نكلّف بكتابة موضوع تعبير في المدرسة مع تعدّد السنوات، واختلاف الموضوعات، لكنّني كنت أحسّه مختلفاً عن أيّة وظيفة أخرى علميّة أو أدبيّة؛ وما أكثرها. وكنت أحضّر نفسي لمغالبة ومنازعة ومساورة، قد ترافقني حتّى موعد الحصّة الموعودة، وأكون قد توصّلت إلى نصّ، قد يتلى أمام الأستاذ والزملاء؛ وقد يعجبهم؛ لكن هذا لا يخلّصني من السؤال الذي يبقى عالقاً: هل أعجبني؟! هل أرضى توقي إلى إنجاز مختلف؟! أما كان من الممكن أن يكون أفضل؟!
كان هذا ما يحدث؛ مع أنّ الموضوع محدّد العنوان؛ فلماذا يلحّ الإحساس ذاك، من دون عنوان مقرّر، أو نوع كتابة محدّد، أو فحوى مطلوب؟! هذا ما كان يلحّ أيضاً، خارج تبعات الدراسة، في تلك المراحل، ويخرج نصّ، ربّما، لا ينتمي إلى جنس أدبيّ بعينه؛ أو لم يكن هذا في الحسبان، أو ليس محور الاهتمام؛ بل الأهمّ أنّه كان؛ وارتحت.. لكن إلى حين!
ما زال الإحساس ذاك يراودني، ويرافقني، ويلحّ عليّ، في مختلف الأوقات، وما زلت أحاول- وأطمح إلى- أن أنصاع لرغباته، فأكتب، وأراوده عن مشاكسته؛ فلا يرضى أن يبرح، من دون أثر ما يتنامى، ويترامى، في أجناس معروفة، أو كتابات أخرى؛ من دون اختيار مسبق، أو تسيير مرصود.
ويحدث أن يغيب ذلك الشعور أحياناً؛ فأحسّ بجفاف ويباس وجدب، على الرغم من وجود أسباب الحياة الأخرى، وسبلها وأشكالها وعناصرها، ومنها القراءة والمتابعة والاستماع والاستمتاع والتقييم؛ وحين يعود، تَنَزّلُ شآبيب، وتخرّ جداول، وتفيض غدران، وتشرق أضواء، وتزقو عصافير، وتنبسط خضرة، وتتضاحك زهرات، وتفوح عطور، وتتراقص فراشات؛ حتّى إن كان ما على الورق عذابات، وهموماً، ومواجع، وعبرات، وعراكاً، واحتراقاً، وإراقة، وإهراقاً؛ إنّها غبطة التخليق، وفرحة الاكتشاف، ونشوة الإنجاز؛ أليست هذه مفارقة الإبداع الشاغلة الماتعة الشيّقة؟!
ولا يتوقّف هذا على الكتابة؛ فأحياز الإبداع وأنواعه وتشكّلاته وتمظهراته متعدّدة؛ إنّها الفنون بمختلف مسمّياتها وتواشجاتها وافتراقاتها؛ فهناك ما ليس مسمّى، وقد لا يقع تحت وسم معروف، ولا يضير هذا؛ فالأهمّ أنّه كان؛ ولكن.. قد يخرج من لدن صاحبه، من دون مخاض مجدٍ، والمولود ليس سليماً تماماً؛ لعدم تمكّن منتجه من تفهّم الحال المتناوَلة، وتمثّلها، وتقديرها حقّ قيمتها؛ أو لعدم كفاية الشروط الذاتيّة والموضوعيّة، وعدم توافر العناصر والأدوات والوسائل اللازمة، أو عدم ملاءمة الظروف الداخليّة والخارجيّة للولادة الناجحة المجدية والمقنِعة؛ من دون أن ننسى أنّ هذه القناعة نسبيّة، وتختلف من شخص إلى آخر حسب اهتمامه وتخصّصه، وخبرته وحساسيّته الإبداعيّة، وشفافيّته وموضوعيّته، وقابليّته لقبول ما قد يكون مختلفاً ومميّزاً.
وقد تكون الأمور معكوسة أيضاً؛ وهذا ليس في صالح الإبداع حتماً؛ إذ يحاول المرء التخليق من دون قلق، والمغامرة من غير شغف، والتجسيد من دون وعد وحلم، أو التشكيل من دون اعتصار واحتراق واختبار؛ وليس لديه سوى الشحّ والوهن والضياع؛ فمن أين ستأتي الروح لكائنه الإبداعيّ؟! وعَلامَ تأتي؟! وكيف ستعيش، وتنمو، وتفكّر، وتُشاغل، وتُوارد، وتُوافي، وتُشاكس، وتُناكد؟!
والمؤسي في ذلك، ألّا يستطيع الشخص؛ حتّى إن كان من المبدعين المعروفين، تقدير حال القلق تلك، أو أنّه يتجاهلها، أو يكابر حيالها؛ فيواصل العمل من دونها؛ فماذا ستكون المحصّلة؟! وهناك أسماء معروفة في دنيا الإبداع، باتت نتاجاتهم المتأخّرة أقلّ جودة، وأخفّ إشعاعاً، وأضعف تأثيراً، وكان أفضل لهم ولتاريخهم ولسمعتهم ومكانتهم، لو كانوا توقّفوا منذ حين! فمن سيقول لهم هذا؟! لعلّ في ذلك عبرة لسواهم، لنا؛ لو نقبل، لو نستطيع!
نعم هناك كتابات بلا أرواح، ومقولات بلا دفء، وسلوكات بلا مشاعر، ومواقف بلا مسوّغات.. مع ضرورة الانتباه إلى أنّ هذا ليس بالضرورة توجّهاً للكاتب، وكناية عمّا يريد، وتعبيراً عن منهج، وشكلاً متمايزاً؛ له فضاؤه الإبداعيّ، ومنحاه المرصود.
وليس ضروريّاً أن يكون ما يريد المبدع، حاضراً قبل الإبداع؛ بل إنّ محاولات عدّة قد تأتي ثمرة لقلق غامض، ولحال غير مفهومة، وغير مرتّبة، وغير منسجمة، وربما غير منطقيّة؛ فللإبداع منطقه المختلف، وقوانينه الخاصّة، وسياقاته الحلميّة، وألوانه المميّزة؛ وهذا لا يعني أنّها برّاقة الضوء، واضحة المسالك والسبل، محدّدة الهدف؛ بل إنّ الحال الإبداعيّة هي المشعشعة، وتجلّيّاتها هي المتلألئة، وجوّانيّتها المتّقدة هي الظاهرة، وعلاقاتها المضمرة تشي بأنّها صحيحة وسليمة، أو قادرة على الإيحاء بذلك إلى هذه الدرجة وتلك؛ فيما تعبيراتها، وتفصيلاتها، وخطوطها، وملامحها، يمكن أن تكون في أيّة درجة من البروز والحلول والوجدان.
ولا يجوز اليأس من المحاولة، مع وجود القلق ذاك؛ فقد يكون الوقت غير مناسب والاستعداد (غير المباشر) ليس كافياً، والحرارة لا تكفي، والاختصاص غير مفيد، والانفعال غير ملائم؛ ولكن.. لأنّه قلق أصيل متجدّد، ولأنّ هناك موهبة وشغفاً وتوقاً، ورصيداً وملكات، تعود حال الانفتاح على عوالم الإبداع، ومجاديف التخويض وأشرعتها في فضاءاته ومحيطاته.
وثمّة قلق لسوى الإبداع؛ وهو قلق مشروع أيضاً، وموصوف ومحتمل، ويسبّب الاضطراب والتململ والأرق وعدم الراحة، وفقدان الاطمئنان، ويدعو إلى- أو يتطلّب- التحرّك والمشاركة والمبادرة في طرق حياتيّة أخرى، ومجالات للعيش والإنجاز أخرى؛ حتّى تلبية رغبة، أو تحقيق غاية، أو إبلال من مرض، أو تغيير حالة أو ظرف؛ وهذا مهمّ ومطلوب.
لكنّ قلق الإبداع مستحبّ ومرغوب ومأمول؛ فهو مُسائل، ومُكاشف، ومُنازع، ومراود، ومُبادر، وليس له وقت ولا موعد، ولا حيّز أكيد، ولا مدى متوقّع، وقد يتجدّد، ويتبدّد، وليس له علاج؛ بل ليس علاجه مطلوباً ولا مضموناً ولا مأمولاً، وقد يكون ذلك القلق مشكّكاً من أجل يقين، قد لا يأتي، ومبتغى قصيّ المنال، عصيّ الاحتياز، وحالاً رضيّة لا تدوم؛ فهناك موجات قلق أخرى، وتفاعلات أخرى، ونتاجات..
ومن المفارقات المثيرة أيضاً، أنّ قلق المبدع، يُنتج، ما لا يُشبع صاحبه، ولا يُغنيه من كفاية ورضا؛ فيما قد يكون هذا النتاج ذاته، باعثاً على السعادة لآخرين؛ أفراداً وجماعات، قريبين وبعيدين، معروفين ومجهولين، جيلاً وأجيالاً. والمتلقّون يطّلعون على النتاج الإبداعي، وينفعلون به، لكنّهم لا يستهلكون منه شيئاً، ولا ينضب؛ لأنّ من الممكن لأيّ مهتمّ جديد، ومتمعّن مختلف، أن يكتشف غنىً آخر في ثمرة الإبداع، متّصلة العطاء، ممتدّة الإشعاع، وأن يستمتع بمكوّن مختلف بالنسبة إليه، وإلى مؤهّلاته وملكاته، وعدّته، ويمكنه أن يؤوّل، ويفسّر، ويتفكّر، ويخمّن، ويتصوّر، وذلك هو الرصيد الحقيقيّ للمبدع، والبلد، والعالم؛ الذي لا ينقص، ولا يبطل، ولا يخشى على افتقاده قيمته مع مرور الزمان؛ وهو الذي ينبغي الاهتمام به، وبذخيرته، وحيويّته، من مختلف النواحي وبمختلف الأشكال.
أقلق فأكتب…
وأخشى ذلك الحين، الذي قد يحرد لديّ ذلك الشعور، أو يتمنّع، ويتمرّد، وينكفئ عن مناكفتي أو منادمتي، وتحفيزي، ويتركني في حيرة مختلفة عن حيرته، وقلق، يتمايز عن قلقه؛ ليتني أكتشف أعراض تلك الحال، وأتصرّف كما ينبغي.
وإلى ذلك الحين ما زلت أقلق، فأكتب، فأقلق…
***
غسان كامل ونوس