الحداثة الشعريّة والمنابر الثقافيّة
الشارقة الثقافيّة-
غسان كامل ونوس-
لا نضيف جديداً، ولا نعطي الموضوع حقّه، حين نقول: إنّ الحداثة، تتطلّب وعياً معرفيّاً، لا يتوقّف على الثقافة وحدها؛ بل يتّصل بمختلف مجالات النشاط الإنسانيّ؛ يتأثّر بها، ويؤثّر فيها، وتختلف نوعيّة التأثّر والتأثير، ونسبة كلّ منهما، حسب المكان والزمان والعناصر والوقائع والمتغيّرات والاختراقات والظروف والممارسات؛ أشخاصاً ووسائل، وأساليب… ويتبدّى ذلك في النظر والمحاكمة والحركة والمنعكس إزاء ما كان، ويكون، ويمكن أن يكون.
وإذا ما كانت الحربان العالميّتان الأولى والثانية، قد أثّرا بفظائعهما على أوروبّا- والعالم- وأسهما؛ بشكل أو آخر، في بروز بعض معالم الحداثة- وما بعد الحداثة- ومساراتها هناك، فإنّ في واقعنا العربيّ المعاصر- للأسف- ما لا يستهان به من أحداث جسيمة، يفترض أن يكون لها تأثير يشابه، أو يختلف؛ بيد أنّ الأمر هناك تأثّر- أيضاً- بالاختراقات في مختلف شؤون الحياة والكون العلميّة والاقتصاديّة والنفسيّة والاجتماعيّة والتقنيّة… وهذا- للأسف أيضاً- ما نفتقده لدينا الآن وفي الماضي غير البعيد ( وللأسف أيضاً وأيضاً؛ فإنّ الموهوبين والمبدعين العرب، ينجزون بتميّز في مجتمعات أخرى!)؛ ما يترك مجالاً لتفسير التردّد والبطء والاضطراب في مسار الحداثة العربيّة وتمظهراتها المتنوّعة، وتلقّيها؛ مع اختلاف نسبة ذلك بين مجال وآخر، وحيّز وآخر.
ولا شكّ في أنّ الأدب- والثقافة عموماً- ميدان مهمّ لتخويض مثل هذا الحراك، وظهور آثاره وملامحه وتجلّياته، والشعر من أبرز الأجناس الأدبيّة تفاعلاً مع المتلقّين؛ قديماً وحديثاً.
ومن البدهيّ أن يحتاج النصّ الشعريّ- وأيّ نصّ أدبيّ آخر- إلى حامل، ومنها: الكتب، والدوريّات الأدبيّة (مجلّات أو صحف)، والصفحات الثقافيّة في الدوريّات المنوّعة، والمسابقات الأدبيّة المتخصّصة، ومنبر الإلقاء في مكان عام أو خاص، والمهرجانات، والبثّ الإذاعي والتلفزيوني، الذي دخل كلّ بيت، والشابكة (الفضاء الإلكترونيّ)، التي باتت تشاغل كلّ شخص، وفي كلّ حين. وقد يرافق هذا أو ذاك أو يتبعه نقد، أو حوار مفتوح أو مغلق، حول ما نُشر، أو بُثّ، أو قُرئ، وقد يفتقد مثل هذا، ويترك أمر التلقّي للمتلقّي نفسه، في سرّه، وفي لقاءاته الخاصّة، وفي ردوده المكتوبة؛ إن أحبّ التفاعل العلني.
ويمكن القول بعد معايشة وربّما- معاناة- مباشرة وغير مباشرة، مسؤولة ومستقلّة، فاعلة ومتفاعلة، منذ عقود، أن من الممكن أن نسجّل بعض الملاحظات؛ بل المنغّصات، التي تبدّت، وتكاد لا تخفى، على المتابع المهتمّ بالأدب والثقافة والحداثة والإنسان والكون:
- إنّ التجارب الحداثيّة العربيّة الشعريّة- وغير العربيّة، وغير الشعريّة- ليست واحدة، وقد تتجاور، وتتوافق، وتختلف، وتتنافر أكثر، لدينا؛ وهذا ما يتيح المجال رحباً لمن ينفتح على الحداثة، في أن يمضي في خطاه؛ ولمن ينغلق عنها، أن تكون له مسوّغاته في الانفضاض عنها.
- ما يزال (جمهور) متلقّي الشعر الحديث، المعجبين به، يشكّلون قلّة، ولهذا تردّداته غير المبشّرة، وغير المريحة، في ما يتعلّق بالذائقة، والقبول، والاستساغة، والمنطق العام.
- إنّ للنماذج غير الناضجة من الشعر الحديث ولنسبتها المرتفعة في ما يقال وينشر ويبثّ، تأثيراً سلبيّاً على هذا الشعر والموقف منه، وعلى الحداثة برمّتها؛ الأدبيّة وغير الأدبيّة؛ وهنا يبرز الأثر المُعكِّر للمشهد الثقافيّ برمّته؛ ولا سيّما للحداثة، التي يدّعيها كثيرون، لِما ينشر عبر الشابكة، بغزارة واستسهال وسرعة وانفعال، بالفصيحة أو بالعامّيّة، موزوناً أو منثوراً أو مترنّحاً بينهما، من دون أيّ تقويم جادّ، مزيَّناً بسيل الإعجابات وسلاسل عبارات المديح، ومتوّجاً بالجوائز والشهادات والألقاب، التي توزّع بلا مسؤوليّة ولا جدارة من المعطي والمعطى له. على مرأى الجميع؛ وتتفاقم هذه الظاهرة مع الأزمات المعقّدة والمتّصلة؛ ومنها أزمة النشر الورقيّ التي تستشري، وتتحوّل الكتب والدوريّات باطّراد إلى النشر الإلكترونيّ المسؤول وغير المسؤول.
- ما شهدته المنطقة في السنوات الأخيرة من أحداث واضطرابات، وما يمكن أن تشهده، في المستقبل القريب؛ ولا سيّما فاعليّة الأفكار المتطرّفة، وقدرتها على التأثير المباشر وغير المباشر على الناس، ومنهم مثقّفون؛ يشير إلى أنّ هناك مشكلة حقيقيّة في الوعي الجمعيّ، والانتماء المجتمعيّ، والمواطنة؛ ما ينبغي التفكير في أسباب ما وصنا إليه، داخليّاً؛ من دون الاقتصار على الأسباب الخارجيّة، والاعتراف بمسؤولياتنا الثقافيّة وغير الثقافيّة في هذا.
- إنّ التطرّف في اتّباع الحداثة، أو في الحفاظ على التقليديّ، لا يختلفان؛ أحدهما عن الآخر، سلبيّة وتنفيراً (للجمهور)، ويشتركان في المسؤوليّة عن الواقع الحاليّ.
- لا شكّ في أنّ للأسلوب، الذي يُعرض به النصّ للمتلقّي، أثراً مهمّاً في متابعته؛ سواء أكان هذا من قبل الشخص نفسه، أو من يقدّمه بالنيابة عنه، وإنّ مسألة الصوت والنبرة والحيويّة، والتعالي والانبتات والنظرة الاتّهامية… كلّها تؤثّر في درجة التلقّي، والتقارب، والتواصل مع هذا المنحى المهمّ من الوعي.
- – ما تزال ثقافة الحوار والتعامل المحترم مع الرأي الآخر المحترم، غائبة أو عاجزة عن أن تسود بمسؤوليّة، وجدّيّة، وفاعليّة، وانفتاح، وجدوى، وما يزال التبنّي المنغلق للأفكار هو الذي يسود؛ ما يدعو، في أحيان كثيرة، بتوجيه خارجيّ أو توجّه ذاتيّ، إلى الأسلم؛ وهو عدم إفساح المجال لأيّ حوار ممكن.
- هناك دور مهمّ وأساس لصاحب المنبر، أو رئيسه، أو المسؤول الثقافيّ فيه، في تعميم المعرفة، وفتح الآفاق، وترسيخ الحداثة، أو الترويج للتقليديّة، أو إتاحة التفاعل والتواصل بين مختلف الأطراف والأفكار والأشكال؛ من دون التعصّب لأحد أو فكرة، ويمكن له أن يجعل من منبره خطّاً متقدّماً للمواجهة الحادّة، أو يبتعد عن المشكلات والمخاطر، ويكون الموئل لديه هادئاً منساقاً مع الأقوى والأكثر حضوراً وهيمنة، أو مهتمّاً بما لا يتيح تأويلاً، ولا يثير أسئلة وتساؤلات، ولا مساءلة، ولا يتّخذ موقفاً؛ فيبدو المشهد لديه بلا لون أو طعم أو رائحة!
- من المؤسي حقّاً، وبعد عقود من التعامل في الوسط الثقافيّ، مع الحداثة والتقليد، أن تعود بك الأسئلة إلى البدهيّ، أو البدئيّ، في التعامل مع الأجناس الأدبيّة، أو مع منحاها الفكريّ، ومشروعيّتها، وجدواها؛ مثل: لماذا الحداثة؟! ولماذا الشعر الحديث؟! ومن أناس ليسوا من العامّة الجاهلة؛ بمعنى الأمّيّة الثقافيّة؛ في الوقت الذي تجاوز العالم ذلك نقداً وقولاً وفعلاً؛ وصولاً إلى ما بعد الحداثة، وما بعد بعد الحداثة؛ من دون اعتماد منطقيّة هذا أو ذاك، أو نفيها! وهذا يؤكّد الوهن في المشروع الثقافيّ لدينا، والتشتّت والحيرة والضياع في الحاضر الثقافيّ الجمعيّ والفرديّ؛ ولهذا أسبابه، التي عرّجنا، ونعرّج، على بعضها؛ من دون الادّعاء بأنّنا نكاد نحصرها.
- يتطلّب النصّ الحداثيّ القراءة مرّات، وهذا ما يتيحه المنشور من النصوص؛ أمّا ما هو مسموع، فمن العسير مسايرته، والانفعال معه، وقد يطوف المستمع الجادّ في فضائه العام أو الخاصّ؛ لكنّ من المتعذّر على نفر غير قليل تقرّي التفاصيل، والروابط والعلائق بين المفردات والصياغات؛ وقليلون من يجيدون جذب المتلقّي بأصواتهم ونبراتهم، وهذه موهبة الإلقاء، التي تعزّ على كثيرين؛ ما يستدعي اختياراً مناسباً للنصوص، التي ستقدَّم قراءة من على منبر.
- إنّ التواصل المباشر بين المُلقي والمتلقّي، يجعل الجوّ حيويّاً، ويسمح للأوّل أن يعاين ردود الأفعال المباشرة وغير المباشرة، ومستوى التجاوب أو نسبته، وقد يتأثّر به المستمع المباشر، ويقتنع بشخصيّته ومنطقه، فتتيسّر سبل التواصل المعرفيّ والإنسانيّ بينهما، وبينه- الثاني- وبين المنحى والمستوى والعناصر؛ كما قد يتأثّر صاحب النصوص بالمتلقّي، ويتنبّه لبعض ملاحظاته، وقد يحدث العكس أيضاً؛ ما يثير تنافراً واختصاماً وافتراقاً مع الشخص وما يمثّل، وما يدعو إليه.
- يُلاحَظ غياب مقلق للجيل الشاب عن الفعاليّات الثقافيّة المباشرة، وتكاد تكون النسبة الغالبة من الحاضرين من كبار السنّ المتقاعدين؛ ومع أهمّيّة انشغال هذه الشريحة المهمّة بالثقافة؛ بدلاً من تسليات أخرى؛ فإنّ الثقافة ضروريّة للجيل، الذي يفترض أن يستلم زمام شؤون الآتي؛ (إن لم نحل بينهم وبين ذلك؛ بالسنن والقواعد والقوانين والأعراف والتقاليد والكرامات وتبجيل القديم الساري!)، ولا بدّ منها، ومن التعامل معها وبواسطتها، مع مختلف المفاصل والأعضاء، والمتوارث والمستجدّ من مهمّات ومسؤوليّات وأعباء.
- لا شكّ في أنّ النصّ الحداثيّ، يحتاج إلى عقل منفتح، وتلقّ واع؛ ولا بأس؛ بل لا بدّ من وسيط قادر على فكّ المستغلق، وتقريب المستبعد، وهذه مهمّة النقد، الذي لا ينحاز، ولا يتطرّف لأحد أو فكرة أو تيّار، وما تزال هذه الحلقة أوهى ممّا يُفترض؛ ومن المشكلات التي تواجه المتلقّي المتابع والمهتمّ، أن يجد لغة النقد من لغة النصّ، وربّما أصعب!
- تُلاحَظ، في الآونة الأخيرة، ظاهرة تحتاج إلى متابعة ودراسة؛ وهي انتشار الشعر المكتوب باللهجات المحكيّة على مختلف منابر النشر والبثّ والقراءة؛ فهل هي ردّة فعل على الواقع المضطرب، والمحتشد بالمتدافعين إلى الوصول إلى الحاجات، العاجزين عن تفسير ما يجري، وضياع القناعة واليقين بما كان، وما هو بديل؟! وهل هذه مسايرة عفويّة للانفعالات الغرائزيّة العاطفيّة؛ بدلاً من صرف الجهد والوقت والطاقة، (التي تكاد تنفد كلّها!) في التمعّن المديد المتبصّر في نصّ حداثيّ، واللهاث خلف ظلاله وأطيافه؟!
وهناك ملاحظات أخرى عديدة.
***
غسان كامل ونوس