الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

حول الخصوصيّة الأدبيّة…

الشارقة الثقافيّة-

غسان كامل ونوس-

يطمح الأديب، ويفترض أن يسعى، إلى أن يكون له صوته الخاصّ وأسلوبه المغاير، في أيّ جنس أدبيّ كتب؛ حيث يمكن لمتلقّ مهتمّ، أن يعرف صاحب النصّ من نصّه؛ لا من التعريف بكاتبه، طال هذا التعريف أو قصر، سبق النصّ أو رافقه أو لحق به؛ ويرغب- أيّ أديب- في الوقت نفسه، في أن يكون نصّه جديراً بالنهوض بعلاماته الفارقة، وعناصره المميّزة، والتأثير بقارئه من دونه، في أيّ مكان عرض. ولكنّ هذا الأمر الحيويّ في الأدب، لا يتحقّق لكلّ أديب بسهولة ويسر، وقد لا يتحقّق مطلقاً لأدباء، على الرغم من نشرهم عدداً غير قليل من الكتب في هذا الجنس الأدبيّ أو ذاك؛ لأنّ الخصوصيّة الأدبيّة، أو الشخصيّة الأدبيّة المميّزة، التي تتبادر إلى ذهن المتلقّي، مع اطّلاعه على العمل، قيمة مضافة؛ بل هي القيمة الفضلى، التي يمتاز بها الأديب، وتسير معه، وتخلّده، وتجعل عدداً مهمّاً من الناس، يترقّب إصدارات هذا الكاتب في حياته، ويسارع إلى اقتنائها، وتحظى باهتمام، حتّى بعد أن يتوقّف عن الكتابة، أو يرحل عد هذه الدنيا، وتلاقي تناولاً مختلفاً ومتابعة ودراسة، ويمكن أن تكون مثار بحث وتساؤل وتوثيق وتأريخ إلى زمن قد يطول..

ولا أحسب أنّ هذا الأمر، الذي هو مُنية جميع الكتّاب، يأتي بقصديّة؛ أي أنّ الأديب يتقصّد الغرابة أو الخروج عن المألوف؛ ليكون له تلك الفرادة؛ بل لا بدّ أنّ ذلك يأتي في سياق عمله الدؤوب، ومن موهبته ورصيده وتجربته ومبادراته، والاستمراريّة المستمدّة من معين وافر، لا من اجترار لأفكار ومواقف وحوارات، وإطلالات متواترة في منابر ونوافذ، بحقّ أو من دونه!

وهنا تختلف المسألة بين من يرسّخ خطّه، ويجذّر أصالته، بموهبة وجهد ومثابرة، وبانفعال حقيقيّ، وحماسة مدعّمة بالإمكانيّات، التي تتطوّر، وتتصاعد؛ وبين من يكرّر نفسه، ويبالغ في العرض والظهور والإصدار، مع الشحّ في موهبته، وتقصيره في التحصيل والاغتناء، وعدم اهتمامه بالسعي الجادّ إلى الأفضل والأكثر تعبيراً مميّزاً عن عواطفه وأفكاره ومواقفه.. في ما ينتج من أعمال؛ ومن المهمّ أن يكون الأديب مندغماً مع الحالة، التي تتملّكه ويتمثّلها، وقد تمتدّ إلى أكثر من عمل، من دون أن يكون لها الوقع الناشز أو الطعم المستهلك. ومن الممكن أن يكون هذا التميّز، أو هذا الصوت الخاصّ، في الموضوع، أو المقاربة، أو البناء، أو الأسلوب، أو اللغة، أو العنونة، والتقطيع، أو حتّى من خلال المفردة والصياغة والنبرة، والأصوات والنماذج والأفكار، والتناول المختلف.. وقد يمثّل نتاجه مشروعاً خاصّاً به، أو يسعى إلى أن يأتي في سياق مشروع مفارق لما هو سائد.

سألت ذات يوم أديباً معروفاً عن سبب اختياره نماذج إنسانيّة متشابهة في ثلاث روايات، فقال بدهشة: حقّاً لم أنتبه إلى ذلك. ومن الخطأ القاتل أن يعتمد الأديب على ما حقّقه، ويتوهّم أنّ كلّ ما يقدّمه مرغوب ومميّز؛ فتراه لا يتوقّف عن الكتابة؛ أيّ كتابة، في الوقت الذي يتمنّى قرّاؤه، والمعجبون فيما كان له من نتاج، أن يكتفي بما كان، وأن لا يشوّه صوته وسمعته وتاريخه، ولا بأس؛ بل لا بدّ أن يشار إليه بهذا، وأن لا يجامَل، ولا يحتفى بأيّ نشاط له على أنّه فتح جديد. وعديدون من يقعون ضحيّة هذه المجاملة، التي قد يسهم فيها الإعلام والقائمون عليه، وتجّار النقد والمطبوعات، فيحاولون الاستثمار فيه؛ أو استغلال اسمه وسمعته؛ كما يقع هو فريسة الشهرة والمواكبة والمدائح المجّانيّة..

ومن الأدباء- ولا أقول المبدعين- من يعمد إلى تقليد أديب بانت شهرته، وحفر اسمه في تاريخ الإبداع بموهبة، نضجت بسعيه ونزوعه المتجدّد، وأظهرها بنزيف وصبر وإصرار؛ فيحاول ذاك الكتابة مثلما يكتب هذا، في الموضوع، والموقف، وحتّى في الصياغة والأسلوب؛ ظنّاً منه أنّ نتاجه سيُتلقّى كما يتلقّى الأصيل، وهذا ما لمسناه- مثلاً- في محاولات عديدة لتقليد الشاعر نزار قبّاني، لكنّها بقيت تدور في فلكه، وتلهث في إثره بصدى خافت ولون باهت..

ويختلف هذا الأمر عن التأثّر بنصّ أو فكرة، فتتحرّض الموهبة لإنتاج ما هو جديد؛ من دون أن يطغى اللون المؤثّر على المشهد، ولا أن يحال النتاج إلى الأصل بشكل غريزيّ لدى قارئ متابع، لا إلى صاحبه، أو قد يكون المتأثّر قد بذل جهداً كبيراً في محاولة إخفاء التأثّر أو إظهاره، كان يمكن لهذا الجهد أن ينتج ما هو أكثر أصالة وفائدة وجدوى، فيما لو اعتمد على أسلوب امتصاص ماء الهطل على مختلف الأراضي، ثمّ يتحوّل إلى أشكال شتّى من الظهورات المائيّة.. ومن المؤكّد أنّ هذا الموضوع لا يخصّ الفنّ الأدبيّ وحده؛ بل يعني الفنون الإبداعيّة الأخرى، وحتّى المهارات الشخصيّة، والممارسات العمليّة في مختلف أوجه الحياة، ولا تكفي الموهبة وحدها لإشهار صاحبها؛ بل لا بدّ لها من كيان يجسدها، وكائن يستثمرها بأفضل الإمكانيّات، من دون أن تبقى خاماً تضيع أو تشوّه، أو تنضب، ولا أن تتحوّل إلى خبث وفتات ورماد.. كما لا يكفي الإعلام الثقافيّ وغير الثقافيّ، الذي يبالغ في العرض والتغطية والترويج لشخصيّات بعينها، قد لا تستحقّ، حتّى ليُظنّ أنّ هناك من يريد أن يفرضها على الناس جميعاً، وعلى الوسط الذي تعمل فيه، والأمثلة كثيرة على هذا، وهناك من يُحسب على فلان نافذ، أو على فترة حكم، أو عصر سيادة، ثمّ تزول آثاره مع زوال الظروف، التي أدّت إلى ظهوره؛ كما أنّ هناك من يلحق الموضة أو الموجة السائدة في الكتابة قولاً واهتماماً، أو طولاً وقصراً، أو شكلاً وتهيّؤات، من دون أن يتمثّل الحالة أو المشهد أو الواقعة أو الظاهرة، ولكنّ الأمر لن يطول به، حين تتغيّر الوسائط والمألوفات والأحوال والقائمون عليها.

ومن الخصوصيّة المبالغ بها، ما يُستهلك؛ لكثرة استعراضه، وتحميله ما لا يحتمل، وإلحاق أشياء أخرى لا تليق، وليست ذات قيمة؛ سواء أكانت للشخصيّة ذاتها أو لسواها.. حتّى إنّ صاحب التميّز، يمكن أن يقع فريسة الظهور المفرط، والتسويق الرخيص، والاجترار والاستهلاك، والكلام الذي يبالغ في وصفه، فيرتدّ هذا الأمر عليه، وتضعف الجاذبيّة إليه، وتنفر من صداه الناس؛ لأنّ الموهبة والخصوصيّة والفرادة، يفترض أن تُحترم في التعامل معها وعرضها وتقييمها، من صاحبها، ومن سواه من العاملين في الوسط ذاته، أو الشأن الإعلاميّ، الذي لا يكون في الغالب مختصّاً أو مهنيّاً؛ لا أن تتولّاها المبالغة، فتودي بها، أو يستهلكها الانشغال والإشغال اللذان يلهيان عن المضيّ في ترسيخها، وتُطلق الأحكام المسبقة والتقويمات المنتظرة؛ كما تَعمى البصائر عن خصائص أخرى للكاتب نفسه أو لسواه، وعن أصوات ومبادرات، تقتضي- وتستحقّ- الوقوف عندها ومتابعتها..

لاشكّ في أنّ الإبداع روح الحياة الوثّابة ونبضها الفيّاض، ومسيرته متّصلة، عبر العصور، وفي مختلف الظروف، وقد يتعرّج خطّه البيانيّ، أو يتعثّر، لكنّ من واجبنا الأخلاقيّ والحضاريّ الإنسانيّ؛ سواء أكنّا موهوبين أو متابعين، قريبين أو بعيدين، أو معنيّين بأيّ شكل وحال، أن نضيء أحياز الحقيقيّ منه، في الأدب وسواه، وأن نكشف المزيّف، ونساعد في تهيئة الظروف والميادين، التي تنطلق فيها إشعاعاته المبشّرة، وتأتلق لآلئه المنتظرة…

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً