الأدب والمنبر والتلقّي
الشارقة الثقافيّة-
غسان كامل ونوس-
لا شكّ في أنّ العلاقة بين هذه الأقانيم الثلاثة أساسيّة نظريّاً؛ ويفترض أن تكون كذلك واقعيّاً؛ لكي تسود حالة من الأداء الأدبيّ المنبريّ المقنع؛ المفيد والممتع، لمتلقّين قابلين للاستقبال الجادّ، مستعدّين له؛ ولكن هل هي كذلك، حقّاً؟!
ولكي يكون هذا متحقّقاً، فإنّ لكلّ عنصر منها دوراً أساسيّاً في بناء هذه العلاقة، وفي قيامها بحيويّة بمهمّتها الجليلة في إيصال رسالتها المبجّلة، وفي استمراريّة ذلك بفعاليّة وجدوى.
فليس كلّ أدب مناسباً للمنبر؛ ولا يتعلّق الأمر بموضوعة القصر والطول والزمن المتاح فقط، ولا بالجنس الأدبيّ، الذي يمكن أن يقدّم من على المنبر، فحسب؛ بل يتّصل ذلك بالمادّة الأدبيّة نفسها؛ من حيث الموضوع، والمناسبة، والمكان، والوقت، والجمهور، والاهتمام السائد، والمستوى العام، والسلاسة والتعقيد، والاسترسال والتكثيف، والنبرة والعاطفة؛ فللاحتفاء مادّته ولغته ومسؤولوه وبهرجته وعائلته الصغيرة والكبيرة، وللرثاء مشاعره وذووه وطقوسه، وللأدباء والشغوفين بالأدب، ومتابعيه نصوص وتوسّم وتوق وذائقة، ولمحبّي الشعر لهفتهم، ولمتابعي النثر ترقّبهم، وللشرائح العمريّة حساباتها؛ فما يناسب الأطفال قد لا ينسجم معه الكبار، وقد يكون مهمّاً للجميع؛ كما للشرائح الاجتماعيّة وعقائدها، وانفتاحها أو تزمّتها، مستلزماتها؛ فطلّاب الجامعة يختلفون عن أبناء حارة مكتظّة، وطلّاب المدارس متمايزون عن أبناء المخيّمات، أو عمّال المناطق الصناعيّة؛ وللمهرجان ضجيجه واحتشاده وإعلامه واستعراضاته، وعلاقاته، وللندوة محاورها، واختصاصيّوها، ولهذا أو ذاك حوار، وخلاصات، وتوصيات، ومنشورات، أو ستبقى من دون توثيق أو تمييز أو حتّى تعليق؛ إلّا إن كان النشاط سيقيّد في جدول تنفيذ مطلوب؛ وقد يسجّل ولا يقام! وهذه طامّة كبرى!
وأرجو ألّا يُفهم من هذا أنّ عليّ أن أقدّم للناس ما يريدون؛ على مبدأ “الجمهور عاوز كده”!؛ بل إنّ لي موهبتي، واهتماماتي، ومادّتي، وأسلوبي، وخطّي، ومفاهيمي، وأدواتي، وقناعاتي وآرائي، ولا يمكن أن أتخلّى عنها من أجل الحاضرين؛ ولكن عليّ ألّا أدلق ما لديّ في قرب فارغة، ولا أن أدخل في حوار الطرشان، فمن الضروريّ أن أعرف لمن أعرض بضاعتي؛ كي تكون الجدوى أفضل، والنتيجة أكثر فائدة؛ وقد أخيب في هذا وأخدع، وأحبط؛ فلأتعلّم من ذلكك من أجل نشاط قادم! ولا يعني هذا أيضاً أن تكون السويّة واحدة؛ فمن الفضائل أن يستمع المرء إلى ما يفوقه، وما لا يعرفه، وما لم يتذوّقه؛ فعسى يجد لديه قابليّة كان يجهلها، وقد يرفضها لأنّه لم يتعرّف إليها، لا لأنّه لا يرغب بها.
أمّا المنبر فله حرمته وآدابه ومتطلّباته؛ من الشكل إلى المضمون، ومن البداية وحتّى الانتهاء، وما بعده إلى اختتام المشهد؛ إذ تؤثّر العناصر المشهديّة والمشهودة في الانطباع، الذي سرعان ما يقفز إلى الخاطر، إذا ما كانت الحال التي يظهر بها المنبريّ مثيرة؛ ولا سيّما إذا ما كان الظهور الأوّل لصاحبها أو صاحبتها، لدى المتلقّي، الذي قد يكون يعرف عنه أو عنها سابقاً من خلل قراءات ومسموعات، أو ليست لديه فكرة؛ فليس الوصول بشكل غير لائق في صالح صاحبه، حتّى إن كان تواضعاً، قد يزيد عن حدّه؛ أمّا إن كان تغرّباً أو مخالفاُ للمألوف، فالأمر يكون مدعاة للنفور، ويزيد التعالي من المشاعر السلبيّة لدى الرائين والمستمعين؛ سواء أكان هذا في الخطو إلى المنصّة وعليها، أو في الجلوس، أو الوقوف، أو في التحيّة، والحديث الاستهلاليّ، أو في الملامح والحركات المبالغة في الجمود والتقتير في التعبير عن التواصل والقرب والألفة، أو في الاستزادة منها، مع الحديث عن النفس والإنجازات، ومن دونها.. إنّ من الأخطاء التي يرتكبها كثير من الأدباء على المنبر، الاستفاضة في التقديم لحديثه، والخروج عن موضوعه، والتأخّر في الابتداء المفيد؛ مع أنّ بعض التقديم مفيد، إذا أحسن انتقاء الفكرة والعبارات والزمن… وبصرف النظر عن طريقة أداء الموضوع الذي قدم الأديب من أجله؛ فهل هو نثر أم شعر أم محاضرة، أم مداخلة، أو سوى ذلك؛ فهل هي مكتوبة أو محفوظة، أو مرتجلة- وهذا يستحقّ تناولاً منفرداً في مناسبة أخرى- فإذا كان الأديب يريد أن يقدّم إبداعاً- أو سواه- فليس مطلوباً ولا مرغوباً أن يتحدّث عنه؛ ولا سيّما إذا استغرق وقتاً مهمّاً، واستهلك كثيراً من الكلمات والعبارات والجمل؛ مادحاً أو شارحاً، أو متحدّثاً عن مناسبة الكتابة وظروفها وطقوسها وأسبابها، وذكر المدائح والإطراءات والكتابات والدعوات والجوائز، التي تلقّاها بسببها؛ وقد يكيل لكتابته بعض هذا قبل أن يبدأ بقراءتها؛ وقد يقع الأديب في مطبّات الشرح والتعليق على ما يقول من نصوص، وقد يقرأ نصوصاً زائدة، أو متباينة الموضوع والمستوى، فيعرّض نفسه للمقارنات بين ما قال، بدلاً من الحديث في ما قال؛ هذا الذي يمكن أن يتفاداه، إذا ما أحسن الاختيار والتحضير لهذا الظهور، وقدّم نصوصاً قليلة وأكثر انسجاماً- ومرّة أخرى أجد من المهمّ الإشارة إلى أنّ الأديب يختار ممّا لديه غالباً، ولا يكتب للمناسبة؛ إلّا قليلاً؛ أو يفترض ذلك. وإذا كانت المادة دراسة أو نقداً أو محاضرة، أو ندوة؛ فمن المهمّ عدم الإطالة في الحديث قبل الدخول في الموضوع، وعدم الاستفاضة في القشور والأوصاف والشروح، وعدم الاستعصاء في طمي التفاصيل، وعدم الاستعراض في الإكثار من المصطلحات والنظريّات والأسماء، وعدم الإكثار من الاستشهادات والمقبوسات، وألّا يتهرّب من موقف يتمثّله، ولا يتعنّت في رأي وحكم وتقييم، ويتمترس خلفه، وأن يكون قوله في هذا احتمالاً واستيثاقاً وبرهاناً؛ أكثر منه اعتقاداً وإطلاقاً وخارج الخطأ وحتّى السهو، ولا ينتقد الآخرين بشخصيّاتهم لا بكتاباتهم وأقوالهم، وألّا ينحدر في الانتقاد إلى الإسفاف أو الإلغاء، وألا يتجاوز حدود الإطناب والمديح، إلى العصمة والتقديس. ومن المهمّ الانتهاء من التخويض في المحور أو الموضوع في وقت معقول، وبخلاصة ورؤية، أو شكّ وتشكيك وتساؤل. وأن يكون الأديب جاهزاً للحوار والنقد والاختلاف، وعلى الأقل قابلاً لذلك، ومنصتاً هادئاً متأنّياً، لا رافضاً محتدّاً مقاطعاً، وعلى الأكثر راغباً به ومرحّباً ومطالباً به. ومن غير المقبول أن يقول المنبريّ كلمته ويمشي؛ مهما كانت، وكان، ومن المستساغ أن يبقى الحوار ممكناً في لقاء آخر، ويمكن أن يكون هذا في مكان آخر، وبوسيلة أخرى.
ولا بدّ من تأكيد أنّ الاحترام واجب على المنبريّ والحاضر؛ كلّ منهما تجاه الآخر، من قبل الالتقاء، وليته يتجدّد، ويستمرّ خلاله، ويبقى بعد اللقاء طويلاً، حتّى إن كان اختلاف في المعطيات والرؤى والمخرجات قد ظهر في أثناء العرض أو الحوار.
وليت المتلقّي يقتنع أنّه جاء ليستفيد، حتّى إن كان لديه الاختصاص ذاته أو الاهتمام عينه، وعليه أن يتحضّر لذلك، ويبدأ الاستماع مع الإعلان عن بداية اللقاء، وأن يحسن ذلك، مع إحسانه الجلوس؛ فلا ينشغل بكائن؛ لا بالآخرين؛ مسؤولين، ومقدّمين، وإعلاميّين، وأصدقاء، موجودين أو متأخّرين، مجاورين أو بعيدين، ولا أن ينشغل بالجوّال؛ تفحّصاً، أو تصفّحاً، أو مكالمة.. وألّا يبدي تذمّراّ من قول أو سلوك أو إطالة؛ بالصوت؛ تعليقاً أو مقاطعة، أو أيّة نأمة أخرى، ولا بالحركة، وقوفاً أو تنقّلاً، أو خروجاً… وأن ينتظر إلى انتهاء المنبريّ من مادّته، وابتداء الحوار؛ فيتحدّث بإذن، وبهدوء، واختصار، وفي الموضوع المطروح وخلال الزمن المتاح، وعليه ألّا يتحدّث أكثر من مرّة إلّا للضرورة، وإذا سمح الظرف بذلك، وألّا يساجل، أو يجادل، أو يشوّش، أو يشاكس، أو يتّهم، ويعادي…
وجدير القول بأنّنا جميعاً نقع بمثل هذه الأخطاء؛ وما من أحد مثاليّ؛ فللمنبر رهبته ومتعته وإثارته، وللمشهد تأثيره وانعكاسه، وللموقف انفعالاته وحيويّته، وللقول تردّداته ؛ وتختلف القوة على التحمّل والتصبّر، وكظم الاندفاعات، وإخفاء المشاعر… لكنّ الأهمّ ألّا يتكرّر هذا، ويستمرّ؛ وكفى المرء نبلاً أن تعدّ معايبه!
وهناك اختلاف بين منبر أدبيّ وآخر؛ حسب القائمين عليه، والموقع والمناسبة والظرف، وهناك عادات نعاني من هيمنتها؛ كالتأخّر في التحضير والحضور والابتداء؛ ولا سيّما حين يكون للمسؤولين دور، ولا بدّ أن يتصدّروا المشهد، ويربكوا المنظّمين، ويحرجوا الجالسين، والمقدّمين، فيرحّب بهم فرادى ومجتمعين، وبالترتيب المنزّل، والخطأ ممنوع! وقد يشوّشون على المناسبة كلّها؛ بأحاديثهم الجانبيّة، وتدخّلاتهم، ومكالماتهم المهمّة، وخروجهم المنظور مع المرافقين، والتسابق لشغل أماكنهم المشرّفة؛ من قبل المتطلّعين؛ وهم كثر!
***
غسان كامل ونوس