الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

الكتابة الأثيرة وطقسها الأثير

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

كنت- وما زلت- أسمع، وأقرأ، طقوساً محدّدة لازمة للكتابة، لدى كتّاب قريبين وبعيدين في المكان والزمان؛ سواء أكان ذلك متّصلاً بمواقيت يوميّة، وفصول ومواسم، أو بأمكنة داخليّة وخارجيّة؛ ومنها ما يتطلّب الهدوء والصمت والانغلاق، أو التدخين والموسيقا، والانفتاح على الطبيعة والفضاء، مع أنواع من الشراب والطعام، أو من دونها…

وكنت- وما زلت- أعود إلى نفسي آناء الكتابة، التي أثابر على ممارستها منذ أكثر من أربعة عقود؛ فأحاول أن أبحث عن طقس مميّز أو حال أثيرة، فأجد أنّني كتبت، وأكتب، من دون طقوس، وفي مختلف الأوقات والأمكنة والظروف؛ فالأهمّ أن تكون الفكرة حاضرة، أو الرغبة في الكتابة متوافرة، أو أنّ الحالين مترافقتان، ولا يبقى سوى وجود فسحة لذرف الأفكار على الورق؛ ومنها ما يذهب بلا رجعة؛ لانعدام تحقّق مثل تلك الفرصة، أو تأخّرها؛ وقد تبقى الفكرة تدور في الذهن مدّة، وتتنامى، وتستجمع روافد إغنائها، حتّى تصبح قابلة للحياة؛ باستقلاليّة نسبيّة عنّي، فتسيل الكلمات والجمل؛ بما قد يفاجئني؛ وقد أبدأ بكتابة فكرة؛ ليتحوّل النصّ إلى فكرة أخرى؛ وهذا لا يعني أنّني لا أقارب فعل التدوين، إذا لم تكن الفكرة مكتملة؛ مع أنّي لا أرغم نفسي على ذلك؛ فالرغبة في الكتابة تستدعيني لاستدراج فكرة شاردة، أو كلمات لائبة، قد لا يكتمل هذا في جلسة استنزاف واحدة. وأعود- دائماً- إلى ما كتبتُ بعد حين، يطول أو يقصر؛ لتشذيبٍ قد يحتاج إليه، وقد تتكرّر المراجعة حتّى يغدو النصّ مقنعاً؛ من وجهة نظري، التي لا أفرضها على أحد، ولكن أعرض ما توصّلت إليه على الملأ؛ حين يمكنني ذلك، وللآخرين الحكم عليه، حسب اهتماماتهم ومستوياتهم ونواياهم…

وطبيعيّ أن تختلف الحال بين النصوص الإبداعيّة وغير الإبداعيّة؛ ولا سيّما أنّني كتبت في عدد غير قليل من الأجناس الأدبيّة؛ كما يتمايز الأمر بين نصّ إبداعيّ وآخر.. فحين أبدأ برواية؛ أنشغل بها، وأستزيد، وأغتني، من دون انقطاع، ومن دون كتابة نصوص إبداعيّة أخرى، حتّى أنتهي منها في نسختها الأولى؛ الرواية الوحيدة، التي توقّفتُ في أثناء كتابتها، وانقطعتُ عنها حوالي عام، خرجتْ خلاله نصوص أخرى، ثمّ عدت إلى إتمامها من دون توقّف، كانت “أوقات برّيّة”؛ أمّا الروايات الأخرى، فتراوحت مدد كتابتها بين شهر وبضعة أشهر؛ ليس إلّا.

وحين تراودني الفكرة، تتبنّى قوامها؛ شعراً أو نثراً، والجنس الأدبيّ المناسب لها، وحتّى حين أُقْدِم على الكتابة من دون فكرة متبلورة، فإنّ ما أكتبه يفرض هيكله ونوعه وطوله؛ فقد تتفاوت النصوص في الجنس الأدبيّ الواحد تفاوتاً مهمّاً من حيث الطول؛ ففي الشعر هناك بضعة أسطر، وصفحات، وفي الرواية أيضاً اختلافات بيّنة في البنية والفضاءات والكائنات، وحين أحسّ أنّ النصّ اكتمل، أتوقّف عن الكتابة فيه؛ وقد استبعدتُ أربع صفحات من الرواية “المدار”، التي تتكوّن من مئات الصفحات؛ فقد اقتنعت أنّها تشكّل عبئاً عليها! وحين أحسست أنّ فكرتين في نصّين قصصيّين، لم تُشبعا، وتحتاجان إلى فضاءات أوسع، حوّلتهما إلى روايتين؛ إذ لا أضع برنامجاً مسبقاً للعمل، لا في الرواية؛ ولا في سواها؛ بل أعمد إلى استكمال المشاهد والأفكار؛ كما في لعبة (البَظلّ) المعروفة؛ والعمل الوحيد، الذي وضعت له مخطّطاً، لم يُكتب!

وحدث أن تلبّستني حالٌ أيّاماً، كتبت خلالها من دون أيّ تخطيط أو تدبير، عبارات وأفكاراً قصيرة، فخرج كتاب نثريّ، لا مسمّى لجنسه، مختلف في الشكل والمضمون عن سواه؛ أسميته “نفثات”.

أمّا في الكتابات غير الإبداعيّة، فيكاد لا يختلف الأمر؛ فلا طقوس، ولا أوقات محدّدة؛ ولا موضوع مختاراً أحياناً؛ لكنّ الكتابة الدوريّة المطلوبة؛ (وقد كتبت مئات المقالات والزوايا)، تفرض عليك شعوريّاً ولا شعوريّاً، أن تكون مهيّأ لالتقاط ملمح أو اقتناص فكرة، تناسب الحيّز المتاح، أو تُستدرج أيضاً في ظرف معيّن خاصّ أو عام. وللحقّ فمثل هذا الشعور الواعي وغير الواعي، يكاد لا يفارقني؛ فأحسّ دائماً أنّ عليّ الكتابة، وأنّ لديّ ما يجب أن يكتب؛ ولعلّه يستحقّ، وأنّ عمراً محدوداً كأعمارنا؛ حتّى إن بلغ أقصاه، لا يكفي لإشباع هذا الشعور؛ على الرغم من أنّ أوقاتاً جديبة تعبر، أتساءل فيها إن كنت حقّاً من كتب كلّ هذا، ومتى؟! وكيف؟! وهل يمكن أن أعود إلى الكتابة؟! ولكن لحسن الحظّ لا تطول.

لقد كتبت كثيراً بين أفراد الأسرة، وفي أيّ مكان داخل البيت، وخارجه وحوله، وفي حافلات مكتظّة بالركّاب، غاصّة باللغو والضجيج، وكتبت في الطبيعة، بين الأشجار والشجيرات، وعلى السفوح، وفي الحدائق العامّة، وعلى شاطئ البحر، وفي المكاتب، التي كنت مسؤولاً فيها، وفي أيّ مكان أقمتُ في الحِلّ والسفر، وفي حالات الانتظار، التي تكرّرت، وتمادت، وكتبت في مختلف أوقات النهار والليل من الفصول الأربعة… وإلى الآن ليس لي ركن محدّد للكتابة، ولا طاولة مميّزة، ولا وضع أكثر قرباً إلى النفس، وليس من شراب مرغوب، أو لحن مرافق مطلوب، أو أيّة مؤثّرات أخرى.

إنّ الطقس الأثير يحلّ حيث تكون الكتابة؛ هي من تتخيّر، وأنا أستجيب؛ إن كنت أستطيع؛ أو أنا من يتوسّله أو يتوسّمه، وشآبيبها تتهامى؛ إن كان بخارٌ وتكاثفٌ وطلق؛ والطقس الأكثر اخضلالاً، يسود بعد الانتهاء من الكتابة؛ حيث الإنجاز والغبطة والنشوة.

لقد تعدّدت أشكال المدوّنات وأنواعها، واعتمدتُ صيغة، لم أخطّط لها أيضاً، في تصنيف ما نشرت؛ فأسميت كلّ ما لا ينتمي إلى جنس أدبيّ إبداعيّ معروف؛ كالقصّة والرواية والشعر والمسرح، “كتاباتٍ”، ووضعت لها تسلسلاً، حسب ترتيب الصدور، وقد وصل الرقم إلى ثمانية، والكتاب التاسع منها قيد النشر.

وللعلم؛ فقد صدر لي إلى الآن اثنان وثلاثون كتاباً، وهناك ثلاثة كتب قيد الطباعة لدى جهات ثقافيّة مختلفة، ولديّ عشرون مخطوطة في الرواية والقصّة والشعر والمسرحيّة، وكتابات أخرى.

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً