الفئة: أدب
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ملحق الثورة الثقافي- العدد (1040)
تاريخ النشر: الثلاثاء (6-4-2021م)

الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *

يقول “إبراهيم وطفي”، المترجم المعروف بترجماته عن الألمانيّة. يقول في المجلّد الأوّل من موسوعته “فرانز كافكا- الآثار الكاملة مع تفسيراتها”- ستّة مجلّدات؛ المنشور من قبل المترجم نفسه في طبعته الأولى- العام (2000م)، في الصفحة (591)؛ بالعنوان: “المَسخ “العربيّ”:
“هذه الترجمة قام بها منير البعلبكي، وأنا نقلتها عنه حرفيّاً”. هكذا فكّرت أنّني سأكتب، عندما بدأت في ترجمة وإعداد كتاب “الانمساخ”. صوّرت كامل صفحات كتاب “المَسخ” (الصادر عن دار العلم للملايين)؛ كي أجد فراغاً كافياً لكتابة أيّة تصحيحات، وكان تقديري أنّني قد أجد بعض الأخطاء الطفيفة، التي وقعت لسببٍ وحيد، هو أنّ ترجمة البعلبكي كانت عن لغة وسيطة.. وشرعت في مقارنة ترجمة البعلبكي مع النصّ الألماني، وفوجئت مفاجأة، أقلّ ما يقال فيها إنّها غير سارّة:
ما من صفحةٍ من صفحاتِ البعلبكي تخلو من عدّة أخطاء. في الصفحات الأولى كانت كلّ صفحة تحوي بضعة أخطاء، وكلّما تقدّم عدد الصفحات، زاد عدد الأخطاء في كلّ صفحة. وفي منتصف القصّة، أصبح التصحيح يبلغ نصف النصّ. وفيما بعد، لم يعد بالإمكان كتابة التعديلات على الصفحة نفسها، وإنّما أصبح من الضروريّ كتابة الصفحة من جديد. وهكذا اضطررت إلى كتابة النصّ بكامله بخطّ اليد.”
يضيف وطفي في الصفحة (595) بعد عرضه لتسعة أسباب، قد تكون ممكنة وراء ذلك: “ورغم ذلك، فإنّ ترجمة البعلبكي هذه هي أفضل ترجمة عربيّة لنصٍّ من نصوص كافكا، بل إنّ نصّ “المَسخ” هو النصّ العربيّ الوحيد، الذي يستحقّ الذكر والنقد من نصوص كافكا في اللغة العربيّة.”؛ (1997م)
وأسارع إلى القول: لم تكن مفاجأتي، حين قرأت هذا الكلام، سارّة أيضاً، وبتّ أفكّر في عالم الترجمة، الذي نعيش في خضمّه المتلاطم مع تقدّم الزمن، وفي ما قرأنا ونقرأ من أدبٍ وموضوعاتٍ وحواراتٍ ومواقف ومذكّرات؛ سواء أعجبتنا، أم لم تعجبنا، يسيرة أو متعثّرة؛ مترجمة عن لغات أخرى، وبنينا رصيدنا العلميّ والثقافيّ والاجتماعيّ، على قسمٍ كبير منها؛ فإلى أيّ حدٍّ، يُفترض أن تكون ثقتنا بمصداقيّةِ ما نقرأ؟! ومن الذي يصوّب ذلك؟! وبعد كم من الزمن؟! إذا كان هذا سيحدث؟!
قد يبدو نافلاً أو مكروراً القول بأهمّيّة الترجمة وضرورتها، في تبادل المعارف والعلوم والآداب، ومختلف أوجه الثقافة بين شعوب العالم، التي تتحدّث لغات مختلفة، ولا سيّما في عصر القرية الواحدة، التي يشكّلها العالم اليوم؛ وفي آفاق الانفتاح الكبير، والسرعة في نقل الأحداث والوقائع والمعلومات، والقدرة المذهلة على النقل المباشر؛ مصحوباً بالترجمة الفوريّة من مختلف أركان المعمورة. وقد تُظهر المقارنة بين ما كان قبل عقود وعقود، وبين الحال الآن، الفرق كبير، بين تأخّر الترجمة لنصٍّ واحد سنين وسنين، ووجود ترجمات متعدّدة لنصّ واحد!
ولا بدّ من الإشارة إلى الكلام المعروف والبديهي، الذي يقول بضرورة إتقان المترجم للغة، التي يترجم منها، واللغة التي يترجم إليها، بما يتجاوز المفردات والصياغات إلى الثقافة، التي تتضمّن المصطلحات، والأمثال، والسير والشخصيّات الأسطوريّة والتاريخيّة والواقعيّة، والمعتقدات، والعادات والطقوس الاجتماعيّة والدينيّة، والحِكَم والأقوال المأثورة.. وسوى ذلك؛ إذ إنّ الذي يكتب في لغته، يمكن أن يشير، أو يلمّح إلى ما هو معروف لكثير من أبناء الشعب، من دون الضرورة إلى الشرح والتوضيح؛ فيما يحتاج المترجم إلى بيان ذلك للقارئ الغريب والبعيد- ربّما- عن هذا البلد وثقافته. وقد تكون كلمات أو أدوات غير مألوفة، أو لم تعد مستعملة حتّى في اللغة الأصل؛ كما أنّ بعض المفردات والمسمّيات العامّيّة، قد تربك الترجمة؛ إضافة إلى أنّ الثقة الزائدة بالنفس من قبل المترجم، والسرعة، وعدم المراجعة والتدقيق؛ لتحقيقِ سبقٍ، أو اللحاق بمناسبة ما، قد تكون من المؤثّرات السلبيّة على الترجمة الناجزة.
وتتضاعف المشكلات، وتتنوّع، حين تكون الترجمة عن لغة وسيطة؛ حيث تتزايد الثغرات، وتتباعد الفضاءات، وتتراكم الأخطاء في الترجمة مرّتين أو أكثر.
وما زلنا نتحدّث عن الأخطاء غير المقصودة في الترجمة، الناجمة عن جهل، أو تسرّع، أو تقصير، أو إهمال. ولم نتطرّق إلى الترجمات المغرضة والمشوِّهة والموجّهة؛ لقلب الحقائق، وتغيير الوقائع والمواقف، وتضليل الرأي العام في البلد المستهدف، في مختلف شؤون الحياة، حتّى في المحافل الرسميّة الدوليّة!
وهناك أمثلة عديدة عن ترجمات أحدثت إرباكات وإحراجات وحوادث كبرى، غير مألوفة وغير مستحبّة، وسبّبت مشكلات غير يسيرة؛ للاختلاف في تفسيرها وتأويلها، وتحديد الغاية منها..
ومن المؤسف أنّ هناك استسهالاً متزايداً في ارتياد سبل الترجمة؛ ولقد صار سهلاً على أيّ شخص، أن يعتمد على الحواسيب والبرامج، التي تترجم النصوص آليّاً، ويقدّمها على أنّها نصّ مترجم؛ وهي تكاد لا تبيّن موضوع النصّ ومفاهيمه؛ ناهيك عن الصياغات والمعاني الخاطئة، والتراكيب الركيكة..
ولا شكّ في أنّ في الترجمة الناقصة أو المغلوطة ظلماً مزدوجاً على صاحب النصّ الأصليّ، وعلى المتلقّي، الذي يعتمد على مصداقيّة المترجم وقدراته وإمكانيّاته، ويتعذّر عليه التيقّن من سلامة معاني النصّ، وتطابقها مع النصّ الأصليّ. وفي الواقع ليست هذه مسؤوليّة القارئ العاديّ؛ ويمكن أن يقوم بها الباحث أو الدارس، وواسع الاطّلاع والخبرة. ولا بدّ أن يأخذ هذا الموضوع الأهمّيّة التي يتطلّبها، ولا يمكن أن يتمّ ذلك إلّا من خلال مؤسّسات مسؤولة جادّة ذات موثوقيّة ومشروع معلن، يكتسب ثقة الناس، الذين يحصلون على مرادهم في نتاج هذه المؤسّسات؛ بدل ضياع الوقت والجهد، في محاولة الحصول على ما هو مأمون؛ من جهة صحّته وصوابه ودقّته..
وللأسف، فإنّ كثيراً من الأعمال، التي تنجز في مجال الترجمة، ما تزال تعتمد على جهود شخصيّة ورغبات ذاتيّة، وبعضها يخضع للمصادفة، وآخر للعاطفة، ومنها ما يكون الدافع مادّيّاً؛ حيث يُسارَع إلى ترجمة كتاب له خصوصيّة ما، وقابليّة للتسويق؛ أو له صدى في الراهن والمعاصر، وهنا يلعب الإعلام دوراً مهمّاً في الترويج لهذا الكتاب أو ذاك؛ وفي الغالب يكون ذلك في المجال السياسي؛ فيما يضعف هذا الاهتمام للكتب ذات الأفكار المعرفيّة المهمّة، والاكتشافات العلميّة، والإنجازات الثقافيّة، إلّا لبعض المحظوظين!
إنّ للسرعة في إيصال المعلومة الجديدة والصورة الدقيقة، والأشكال والوسائل وطرق الاستعمال الأكثر توفيراً وتيسيراً وأماناً وإنتاجيّة، في المجالات الحياتيّة العديدة المؤثّرة؛ دوراً مهمّاً في التوعية والتثقيف والتطوير والتحضّر، ويمكن أن يغطّى في جانب منه من قبل الإعلام، الذي زادت وسائله توسّعًاً وتنوّعاً وإمكانيّات، لكن تبقى للطباعة والقراءة الورقيّة خصوصيّتها وجاذبيّتها.. ولا ننسى، في هذا المجال، أهمّيّة المجلّات والدوريّات الأخرى في مختلف الميادين؛ ولا سيّما المعرفيّة والعلميّة، التي يمكن أن تحفّز المترجمين، وتجذب المهتمّين، وتعمّم المعلومات والأفكار، والمستجدّات المتنوّعة، والإنجازات والاختراعات؛ بما يناسب أكثر.. وما تزال هذه الدوريّات المتخصّصة قليلة العدد والحضور والتأثير في ثقافتنا العربيّة، على حدّ علمي.. على الرغم من ازدياد الكلّيات الجامعيّة، والمعاهد التي تدرّس اللغات الأجنبيّة، التي تعدّدت أيضاً، وتَضاعفِ أعداد الدارسين والعاملين في البلدان الأجنبيّة، ويلاحظ اهتمام متزايد باللغات الأجنبيّة الرئيسيّة، منذ المراحل الدراسيّة الأولى.. لكن، يبقى الأمر في نطاق الفائدة الشخصيّة، والرغبة والاستعداد للسفر!
أمّا الترجمة من العربيّة إلى اللغات الأخرى، فمنغّصاتها أكثر وأكبر، والحديث فيها ذو شجون، ويحتاج إلى مناسبة أخرى.
* كاتب وأديب وشاعر

التاريخ: الثلاثاء6-4-2021

رقم العدد :1040

اترك رداً