الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
صحيح أنّ في الكتابة تنفيساً عن انفعالاتٍ جوّانيّة، وحالات ضاغطة؛ بتأثيراتٍ وعوامل متعدّدة، داخليّة وخارجيّة، تدفع للتعبير عنها؛ لكنّها لا تخصّ صاحب المعاناة وحده، وإن كانت ستنعكس على حاله راحة ونشوة ربّما؛ فهو لا شكّ، سيغبط، إن شاركه هذا الإحساس آخرون، حين يتلقّونها عن قربٍ أو بعد، مباشرة أو بطرق أخرى؛ كالنشر والتعميم والتسويق، وسيكون قلقاً حتّى تصله ردود أفعال عن نصوصه، يقرؤها أو يسمعها…
وهذه الحركة مطّردة بين الكتابة والنشر والتلقّي، والتعبير عن التلقّي حتّى من لسان ناقد- ويا ليته يكون خبيراً منصفاً صادقاً مع نفسه!- وكلّما كثر تناول النتاج قولاً ودراسة وكتابة وتحليلاً وتأويلاً، حظيَ صاحبه بسمعة طيّبة وشهرة مهمّة، لا تقف عند حدود المنطقة أو البلد، وما يساعد على ذلك، عوامل مختلفة؛ منها نشاط الكاتب وحيويّته في إخراج نصّه من خزائنه، وطرحه إلى الناس المهتمّين، من دون الاكتفاءِ بإخراجِ تبعاته من نفسه ومشاعره، ولا شكّ في أنّ مثل هذا العمل، يرافقه قلقٌ وانتظار..
كما أنّ اهتمام المنافذ الإعلاميّة، وإعلاميّيها؛ ولا سيّما ممّن لديهم اهتمام ثقافيّ، يدفعهم إلى التغطية والدراسة، أو يشجّعون القرّاء على ذلك، ويلفتون اهتماماتهم إلى هذا العمل؛ إضافة إلى دور النشر، التي تقوم بالإصدار، والتوزيع، إذا ما كان عملها يتضمّن هذا، وإيصاله إلى أبعد مدى، عن طريق المشاركة الفاعلة في معارض الكتب، والتسويق لإصداراتها؛ بما هو ضروريّ من إعلان وإعلام وإعداد ندوات ونشاطات، تدرس وتقيّم، وتشرح… وقد لا يتوقّف الانتشار المأمول والمطلوب على عدد الكتب للمؤلّف؛ بل ربّما حصلت مثل هذه الشهرة من نصّ واحد، قصّة أو قصيدة أو مسرحيّة، أو حتّى مقال أو مقالات.. كما أنّ هذا ليس من مسؤوليّة الكاتب، الذي قد يخجل، أو يتردّد في القيام به، أو ليست لديه الإمكانيّة، حتّى إن رغب بذلك، وهذا يتوقّف أيضاً، على البيئة والظروف العامّة والخاصّة، والنشاط الثقافيّ، والاهتمام الثقافيّ والإعلام الثقافيّ بالثقافة أو بأدوات بثّها أو بمشروعها..
وهناك عوامل أخرى؛ فمثلاً كان كتابٌ واحد بطبعة متواضعة، يدور على كثير من الناس في حيّزٍ مشتركٍ أو أحيازٍ متباعدة.. من دون إعلام أو مع قليل من وسائله، وكان الكتّاب قلّة، معروفين بنتاجهم؛ وليس بأخبارهم وسيرهم، وكنّا ننتظر هذا النتاج، ونتداوله، ونتناقش في ما يتعلّق به.. وفي مراحل تالية، تكاثرت وسائل الإعلام، وتطوّرت، وصارت وسائل النشر أسهل؛ من صفحات ثقافيّة في صحف متنوّعة الاهتمامات والموادّ- وقد تأتي الإعلانات أو سواها، على بعض تلك الصفحات المنتَظرة أحياناً، فتلغيها أو تؤجّلها- أو دوريّة ثقافيّة متخصّصة، ليس من اليسر وصولها إلى الأرياف البعيدة؛ في ظلّ صعوبة النقل والتنقّل؛ وازدياد عدد الكتّاب أو المشتغلين بالكتابة، وهؤلاء يقومون بالتسويق لأنفسهم بجرأة، ولهم من يسوّق أسماءهم وأقوالهم قبل نتاجهم، عبر الوسائل الأكثر حداثة، وغدت الصور تبثّ مباشرة من أجهزة موجودة لدى كلّ حاضر للنشاط، أو أيّ شخص آخر، وامتلأت المواقع والصفحات الفضائيّة بالكتابات والتعليقات المشرعة والمدائح المجّانيّة؛ فصار أمر متابعة جادّة ومقوّمة للنتاج، عسيراً أمام هذا الاحتشاد والاكتظاظ؛ كما أنّ مثل هذه المحاولات المسؤولة، ليست متوافرة بما ينسجم مع ضرورة الغربلة والتصويب والتقويم؛ من أجل الذائقة العامّة، ومن أجل أن يحظى من لديهم موهبة حقيقيّة، وموقف أصيل، وهمّ حقيقيّ، بما يستحقّون.
لقد انتشر المتطفّلون على الكتابة لعرض الاسم والحصول على الشهرة من المحرّرين والمقوّمين، والدارسين، الإعلاميّين خاصّة، والمشاركين في النشاطات الكثيفة في المراكز الثقافيّة والمنتديات والمواقع والصفحات.. وبات كثيرون منهم يستعرضون أكثر ممّا يؤصّلون؛ فيذكرون أسماء كتّاب مشهورين، وقد يتزلّفون لأسماء نقديّة، تهتمّ بالظهور والكمّ والأصحاب وأهل الحظوة والجاه، والنفوذ بأشكاله المتعدّدة.. وبقيت في ذاكرة الناس أسماء وأعمال، كانت حاضرة قبل الفورة الإعلاميّة، وثورة الاتّصالات، قد يتداولونها، إذا ما رغبوا في إظهار معرفة ودراية وخبرة؛ أمّا الآخرون المستحدثون، فلهم أيضاً مروّجوهم ومسوّقوهم، والمعجبون بهم، الذين لا يبخلون بهذا على من يودّون.. وفي هذا الخضمّ المتلاطم من الكتّاب والمنتديات والمسوّقين، يغيب كتّاب يستحقّون أن يظهروا، وتضيع كتابات أصيلة، وتضمر مواهب، أو تحترق من كثرة العرض والطلب.. وفي هذا خطر على الثقافة، والذوق العام، والوعي العام، الذي يأتي نتيجة اهتمام وتبصُّر، وهمٍّ حقيقيّ، وتحليل، واستنتاج..
ويمكن الحديث عن أجيال متعدّدة، وأصوات لم تعد جديدة، خطت ما بين الأشواك، وقصور الإمكانيات، وقلّة المهتمّين، وبقيت ملتزمة بموهبتها وجدّيّتها ونتاجها المضني.. لكنّها ضاعت بين ضفّتين؛ الأولى جيل من الروّاد في مختلف الأجناس، أو من المشهورين الذين غادروا هذه الحياة، وظلّت أعمالهم، أو صاروا في أواخر أيّامهم، وما زال لهم حضور يُذكر، ويذكّر؛ وهم لا شكّ يستحقّون التقدير والاهتمام، والبقاء في الذاكرة؛ ولا سيّما أنّهم كانوا المبشّرين، أو الممهّدين، أو المبادرين المضحّين؛ للمضيّ في هذا المسار العذب المعذّب، الممتع والمثري، ونجد لهم نصوصاً في المناهج المدرسيّة الرسميّة وسواها، ودراسات عليا في الكلّيّات الأدبيّة، التي تعدّدت هي الأخرى عامّة وخاصّة.
في الضفّة الأخرى، حشدٌ من الكتبة والداخلين إلى هذا المنحى بلا أسسٍ أو خبرة أو ثقافة أو حتّى موهبة، وهم في غالبيّتهم طلّاب شهرة ومواقع ومراكز ومسؤوليّات؛ لكنّهم يحصلون عليها بأسهلِ التصوير والبثّ والنشر، والحصول على الجوائز والألقاب والشهادات، التي لا قيمة مقدّرة لها، ولا تحكيم ولا محكّمين جادّين، يُعتدّ بآرائهم وتقويماتهم.. من دون أن ننكر وجود مواهب جديدة، وإمكانيّات وهموم معرفيّة وحياتيّة ووجوديّة حقيقيّة، لكنّها تضيع أيضاً في الدوّار، لكنّ ما أشرت إليه من أجيال وأسماء ما بين الضفّتين؛ منهم كثيرون يستحقّون الشهرة، والاهتمام، والتكريم، وقليلون منهم استطاعوا الوصول إلى منافذِ النشر، وسبل التنقّل؛ سواء عن طريق مسابقات حقيقيّة جادّة مسؤولة، أو أناس واعين نادرين في منابر ثقافيّة وإعلاميّة.
هؤلاء وأمثالهم، يحتاجون إلى مراجعةٍ وإعادة قراءة أو متابعة ودراسة؛ ليأخذوا بعض حقّهم في ما كانوا، وما يزالون عليه، وعلى صمودهم في مواجهة هذه النشوة، وتضحياتهم وتفانيهم في عملهم وأعمالهم، وعدم الانجرار وراء الإغراءات؛ ليدخلوا اللعبة مقرّظين أو مدّاحين، أو مريدين! حتّى إن يحصلوا على الانتشار المطلوب، وقبل ذلك وبعده، لم يحصلوا على النقد الجادّ والتسويق الحقيقيّ.. فيما نرى أنّ أسماء أخرى معاصرة لهم، تأتي من خارج “الحدود”؛ لأنّ لهم مسوّقين؛ من دون إغفال أحقيّة عدد منهم، لكن، صار في الكتابة موضة، من حيث الموضوع، والإعلان الفاقع، والتسويق التجاريّ؛ تماماً كما نرى إعادة نسخ وتصوير (نشر) لأعمال الروّاد، أو للأعمال التي نالت شهرة منذ زمن؛ بأغلفة ملوّنة ومزيّنة، وتطرح في السوق لصالح المسوّق والمنتج؛ وأحياناً من دون رأي المؤلّفين، الذين لا يزالون على قيد الحياة، ولا احترام من غادر منهم هذه الدنيا، ويبقى أولئك، الذين أشرت إليهم، من دون مهتمّ أو نصير، ومنهم من صاروا في الخمسينيّات والستينيّات، وربّما أكثر، ومنهم من غادر أيضاً، ومن ينتظر بصبر واقتناع ومرارة…
* كاتب وشاعر وقاص
التاريخ: الثلاثاء18-5-2021
رقم العدد :1046